الأبناء بين تعامل الله وتعامل الآباء
الله سبحانه وتعالى يعامل أبناءنا كما عاملنا بعد بلوغنا، فهو سبحانه ينظر لهم باعتبارهم مستقلين تتجه التكاليف والأوامر الدينية لهم مباشرة، ويطالبون بتنفيذها وعدم التهاون فيها، وكما يقول الفقهاء يصبحون محلا لخطاب الله سبحانه وتعالى، فبعد أن كانت خطاباته لا تنظر إليهم ولا تعنيهم حين كانوا صغارا أكرمهم بدخولهم ضمن فئة المخاطبين حين كبروا وبلغوا.
كذلك لم تكن عليهم مسؤوليات جزائية أو عقابية لما يصدر عنهم من أفعال، لكنهم في سن معينة يتحملون كامل الجزاء والمسؤولية عن كل ما يصدر عنهم أمام الناس وعند بارئهم.
هكذا ينظر الله لأولادنا وبناتنا إذا وصلوا سن البلوغ، يساويهم بمن يكبرهم بـ 100 عام في الخطاب والتكليف وتحمل المسؤولية والأمانة التي عرضها على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا﴾.
أما نحن معاشر الآباء فمهما كبر أبناؤنا وطووا مراحل دراستهم، وخطت شواربهم وانطلقت أجسامهم فتجاوزتنا في أحجامها فإنهم يبقون صغارا في أعيننا.
قد يرى البعض ان هذا يدفع للشفقة عليهم والوقوف إلى جانبهم، واستمرار الدعم لهم، وهذا أمر حسن من الآباء تجاه أبنائهم، لكن الناظر للأمر بواقعية يبصر زاوية أخرى من الموضوع تدفع الأبناء للبعد والانزواء عن آبائهم وبمرور الزمن تتسع فجوة هائلة يصعب ردمها بين الولد ووالده، خصوصا في زماننا الراهن.
التفكير الذي يملأ عقولنا بأن أولادنا لازالوا صغارا مهما كبروا يتحول في أحيان كثيرة إلى تقريع وتوبيخ لهم ولتصرفاتهم, وهذا يولد عندهم ردة فعل لا تقل صدمتها للآباء عن صدمة التوبيخ التي تلقاها الأبناء .
لا بد أن الكثير منا حضروا في مواقف لا يحسدون عليها وهم يشاهدون بعض الآباء يقرعون أبناءهم الشباب بقسوة ودون مبالاة بحضور الآخرين, إنه الاحساس والرهان الخاسر بأنهم صغار، وأنهم سيتحملون مواقفنا وتقريعنا في كبرهم كما تحملوها في صغرهم.
وهناك أمر ثان وهو أن استصغارنا لأولادنا الشباب يدفع إلى هيجان شهية النقد الدائم لتصرفاتهم وسلوكهم, ويصل الأمر إلى نقد لباسهم وقصات شعرهم, وليس معنى ذلك ألا نوجه أولادنا ولا نتحدث معهم أو ننير لهم ما يحتاج إلى إضاءة في حياتهم, كلا فذلك غير مقصود.
التوجيه والنصح ضرورة لا يستغنى عنها حتى الآباء, لكني قصدت النقد، والنقد الدائم الذي لا يرى فيه الأب أي حسنة لأبنائه ولا يقبل بأي تصرف يتصرفونه.
الأدهى من ذلك أن يرفع أحدنا يده على وجه ابنه الشاب لأقل خطأ أو خلل، وكأنه لا زال طفلا صغيرا يحتاج أحيانا للتأديب بالضرب أو رفع الصوت عليه.
إن الروايات التي تدفعنا لمصاحبة أولادنا حين يكبرون، لن تجد طريقها في نفوسنا ونحن نؤكد في عقولنا أن أولادنا لا زالوا صغارا، ونتعامل معهم على هذا الأساس.
حين يصل أبناؤنا إلى سن البلوغ بل قبل ذلك الوقت - أحيانا - بحسب نضجهم ووعيهم علينا أن نحاورهم ونناقشهم ونتعاطى معهم بأسلوب جديد يختلف تماما عن تعاملنا معهم حال صغرهم.
والأمر الثالث هو فقدان الثقة في تصرفات أولادنا الشباب باعتبارهم لا زالوا صغارا في نظرنا وهو ما يحطم شخصيتهم ويدمر إمكاناتهم وفرص النجاح في حياتهم.
إن الكثير من البعد والتدابر والانزواء من طرف الأبناء عن آبائهم هو نتاج طبيعي، وردة فعل متوقعة لتصرفات الآباء التي تحط من شأن أبنائهم الشباب في الوقت الذي يبحث فيه أبناؤهم عن المكانة والاستقلالية والإحساس بالذات.