قضاة التأريخ
من المفارقات العجيبة أن نرى المثير من بني البشر ممن يتجاهلون أنفسهم وذاتهم التي خلقهم الله لأجلها، فمع خضم الحياة ومجريات الأحداث على مر العصور ومع أنه في كثير من الأحيان يشكك الكثير منا في النقولات التأريخية وينحى منحا لا يقبله عقله فضلا عن الآخرين، ومع ذلك يبرز العناد الذاتي والمعاداة للآخرين، فنرى الكثير ممن على السواء يقرأون أو يدرسون وكلاهما يرى ويعتقد أنه قد وصل لمرحلة مما يسميه البعض بالحل والربط في الكثير من الأمور.
بينما تراه منكبا على نفسه وقت الحاجة له لكي يكون عنصرا فاعلا في المجتمع، ويبدأ بالجعجعة هنا وهناك ويبدأ بصب الويلات على الآخرين الذين لا يوافقنه في الرأي وتوجيه الأحكام.
فيكون بذلك قد نصّب نفسه حاكما وقضى على فئة من المجتمع بما يراه هواه وبما حكم عليه عقله.
ومن خلال القراءات على الشبكة العنكبوتية نرى الكثير من الكتابات في مواضيع عدة وقد استشهد كتابها في مثير من الأحيان بأقوال العلماء وغيرهم إما عن طريق مواقع الإنترنت أو عن طريق محاضرات سمعها دون أخذ العنوة على عاتقه للتواصل مع هذا أو ذلك العالم لمعرفة رأيه الحقيقي حول الفكرة.
وسأستشهد هنا بقوله تعالى:﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ الأحزاب 72.
فالتجاهل واللامبالاة لهذه الأمانة التي وهبنا الله إياها على حد التعبير قد تفشى في المجتمع، وربما يعتقد البعض بالعمل على اتخاذ التجاهل على أنه فن يمارس بطرق علمية في بعض الأحيان، ولكن ليس في مثل هذه الأمور كتجاهل نعمة البصيرة.
وكما جاء في تفسير الميزان حول الأمانة: أيا ما كانت - شيء يودع عند الغير ليحتفظ عليه ثم يرده إلى من أودعه، فهذه الأمانة المذكورة في الآية شيء ائتمن الله الإنسان عليه ليحفظ على سلامته و استقامته ثم يرده إليه سبحانه كما أودعه.
وأيضاً:
فقوله تعالى: ﴿إنا عرضنا الأمانة﴾ أي الولاية الإلهية و الاستكمال بحقائق الدين الحق علما و عملا و عرضها هو اعتبارها مقيسة إلى هذه الأشياء.
و قوله: ﴿على السماوات و الأرض و الجبال﴾ أي هذه المخلوقات العظيمة التي خلقها أعظم من خلق الإنسان كما قال: ﴿لخلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الناس﴾: المؤمن: 57، و قوله: «فأبين أن يحملنها و أشفقن منها» إباؤها عن حملها و إشفاقها منها عدم اشتمالها على صلاحية التلبس و تجافيها عن قبولها و في التعبير بالحمل إيماء إلى أنها ثقيلة ثقلا لا يحتملها السماوات و الأرض و الجبال.
و قوله: ﴿و حملها الإنسان﴾ أي اشتمل على صلاحيتها و التهيؤ للتلبس بها على ضعفه و صغر حجمه «إنه كان ظلوما جهولا» أي ظالما لنفسه جاهلا بما تعقبه هذه الأمانة لو خانها من وخيم العاقبة و الهلاك الدائم.
و بمعنى أدق لكون الإنسان خاليا بحسب نفسه عن العدل و العلم قابلا للتلبس بما يفاض عليه من ذلك و الارتقاء من حضيض الظلم و الجهل إلى أوج العدل و العلم.
و الظلوم و الجهول وصفان من الظلم و الجهل معناهما من كان من شأنه الظلم و الجهل نظير قولنا: فرس شموس و دابة جموح و ماء طهور أي من شأنها ذلك كما قاله الرازي أو معناهما المبالغة في الظلم و الجهل كما ذكر غيره، و المعنى مستقيم كيفما كانا.
والأمانة قيل في تفسيرها الكثير ومنها: و قيل: المراد بها العقل الذي هو ملاك التكليف و مناط الثواب و العقاب.
فلا نكون كقوله تعالى: ﴿و قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا و كبراءنا فأضلونا السبيلا﴾ السادة جمع سيد و هو - على ما في المجمع، - المالك المعظم الذي يملك تدبير السواد الأعظم و هو الجمع الأكثر، و الكبراء جمع كبير و لعل المراد به الكبير سنا فالعامة تطيع و تقلد أحد رجلين إما سيد القوم و إما أسنهم.
بل واسأل الله تعالى أن نكون من التزموا بالقول السديد:
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا﴾، السديد من السداد و هو الإصابة و الرشاد فالسديد من القول ما يجتمع فيه مطابقة الواقع و عدم كونه لغوا أو ذا فائدة غير مشروعة كالنميمة و غير ذلك فعلى المؤمن أن يختبر صدق ما يتكلم به و أن لا يكون لغوا أو يفسد به إصلاح.
وختاماً: أرجو من المولى العلي القدير أن يرحمنا برحمته ويجعلنا ممن تدبر أموره وحسنت عاقبته وتعقل في بصيرته والتزم الأيمان بأكمله.
وصلّ الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلَم تسليما كثيرا.