"مرتقى عظيم"
ذات بكاء ، ليلة احتشدت فيها جموع نسائية التقت في ساحة "رجل السماحة" التي تحتضن فعاليات لجنة الإمام الحسن "ع" بالشويكة ، اعتبرتها فريدة لتحقق أمنية حضور العرض المسرحي "مرتقى عظيم" بعد أن فاتني العرض الأول الذي احتشد له المشاهدين بثلاثة عروض متتابعة كان للرجال أولاً ثم أعقبه حضور النساء لمتابعة العرضين الأخيرين و ذلك في ليلة الحادي عشر من هذا العام و تزامناً مع استضافة لجنة التواصل الوطني لحقوقيات و ناشطات اجتماعيات من أنحاء المملكة .
وليلة فريدة لانبهاري بإبداع من قام بإعداد هذه المشاهد الراقية التي فرضت على الجميع الصمت و المتابعة و التأثر بقوة هذا العمل الفني المحترف ، و هي ليلة متلألئة بالرغم من سيادة الظلام في زوايا الساحة المحاطة بمكبرات صوت كربلائية النبرة ، التي لم تستطع أي حادثة أخرى أن تغطي على قامتها أو تخمد صداها فهي كربلاء ..
جلست لأشهد مشاهد مسرحية تجسد في أدائها ملحمة تاريخية لم تتكرر ، لأن ما وقع فيها من أحداث دامية لم تكن من منطلق جرة قلم أو شطحة من شطحات الهوى الخيلائية ، بل هي كتبت في اللوح المقدس و بقلم القدرة منذ خلقهما ، أنه لا محالة ستنزف في أرضها و في وقت محدد وبقياسٍ زمني موقوت ، دماء طاهرة ، و سوف تزهق على ثراها أرواحٌ لطالما كانت لها علائق وثيقة بالوحي و التنزيل و الإنسانية ، إذن ما علاقة التنزيل و ما علاقة الوحي و الإنسانية بكربلاء ؟ سؤال لا يجيب عليه سوى القرار الإلهي بتزكية هذه البسيطة من امتداد الظلم و الفساد الذي لن يتوقف سوى بسفك دماء لها في كل قطرة وزن و ميزان عدل و لها في كل عرق قلب ينبض بالحقوق النبيلة و المطالب الإلهية ، فهل أن الميزان الإلهي العادل يتسم بمشاعر عاطفية مجردة من العقل الذي هو معقول في كل ما يصدر منه من سلوك و يستطيع أن يميزه كل إنسان يعي معنى الحق الذي لابد من انتشاله من بين جثث الظلم لتبث فيه روح الحياة .
كنت أرقب حين مشاهدتي جماعات من نساءٍ تحمّلن مع صغارهن برودة الجو وأخريات تنازلن عن الزيارات الأسبوعية، ليلحقن باقتطاف أي حشرجة تنفثها روح الحسين في قلب أخته زينب التي صعدت لتصل عالياً إلى عنان السموات السبع و على مسرح ذاك الزمان المتصل بخشبة هذه الليلة ، الذي لم يكن بعيداً بأحداثه عن بصيرتنا كبشر من طبيعتنا أن نتأثر بما جرى عليه هو و أهل بيته في عصر عاشوراء الدامي ، فلكل قضية إنسانية مشاعر تنوه بها و مرتكزات عقلانية تثبتها و تقر ماهية أسبابها .
صمَتُّ لدقائق لم تطل ، و سؤالٌ يلح عليَّ : لم نحن هنا ؟ و أغلبنا إن لم يكن كلنا حضر ليلة العاشر من محرم مذ ولد أو قبل ذلك .. هل لأننا نتفنن بالحزن و نفتتن بسكب دموعنا كلما ذكر الحسين ؟ أم لأننا نسير وراء لطمة لم تهدأ أو دمعة لم تجف من محاجر أجدادنا و آباءنا و إنا على آثارهم لمقتدون ؟ أم هي قضية عالمية آلت على نفسها ألا تنقضي إلا بتحقيق التوازن الإلهي و العدل الذي لن تستمر بدونه الحياة ؟ حياة البشر بتكاليفها المختلفة ، حياة اقتضت إرادة الله أن تكون كريمة عزيزة ، و كل نفس أدنى حاجاتها أن تعيش مستقرة و تنام باطمئنان ، و أقصاها أن تدافع عن حقوقها التي هي مبدأ كل إنسان مركب فيه عقل يأبى الظلم و الإقصاء ..
قطع صمتي و تساؤلاتي مشهدٌ.. لحظة أن ارتقى الشمر "مرتقىً عظيماً" و قطع رأس الحقيقة التي ارتفع لها ألف صوت و ظهر لها لسانٌ آخر ، هو النصر و حرية الكلمة و الاختيار التي نبتت بدماء الحق و ثورته على سيف الباطل .. هنا في هذا المشهد و هذه اللحظات الشامخة كما هناك على نهر العلقمي الذي تدفقت على شطآنه شرايين السبط المخضب بدمه النقي ، هبطت ملائكة الله مع الرسول محمد "ص" تحفه بأجنحتها البيضاء التي كانت بزغبها تقلب الحسين طفلاً في مهده وتهدئ بكاءه لحظة انشغال أمه الزهراء عنه و في ساعة عزاء سماوي لم تحدث قط في تاريخ البشر، و بحزن تنبع منه عاطفة حملت الحب الأبوي للجميع كما حمل ثقل و تفاصيل الرسالة الخاتمة ، حيث الحسين يستريح على ثرى الانتصار شُيع جسده الطاهر ، الذي لم تترك منه السيوف مفصلاً إلا فصلته ، و لم يبق سهم لم يخترقه ليمزق كبد التساؤلات و إجاباتها ، التي غيبها تاريخٌ زيفه من قام بهذه الجريمة الوحشية النكراء .
يا حسين .. صلى عليك مليك السماء بصلاة الخلود ولا عجب أن تصلي عليك ملائكته و كتبه و رسله بصلاة الحق ..سنظل نردد و نهتف باسمك لأننا نؤمن بما قدمته للبشرية بانتصارك الخالد و نشرك مبدأ الحرية المقدسة حتى يومنا هذا يا حسين .
23/1/1432هـ