الإمام زين العابدين (ع) ثورة بلا رايات
38هـ ، 95 أو94هـ
- العامل الوراثي:
والدته هي شاهزنان أو شهربانويه حفيدة الملك العادل كسرى الذي قال عنه النبي الأعظم فيما روي عنه:"ولدتُّ في زمن الملك العادل كسرى"، وقد حظيت باهتمام أمير المؤمنين حيث أوصى ولده الحسين الشهيد :"...وأحسن إلى شهربانويه فإنها ستلد لك خير أهل الأرض بعدك"، وأوصى أهله بها قائلاً:"... وهي أمّ الأوصياء الذريَّة الطاهرة"، وكانت من خيرة النساء اشتهرت بفضلها الكثير، وماتت في نفاسها بولدها الإمام السجّاد .
وأمّا من طرف الأب فهو ابن أولاد الأنبياء .
- ألقابه :
من أشهرها "زين العابدين"، و"سيّد العابدين"، وهذه التسمية جاءته من جدّه النبي الأعظم فيما رواه جابر الأنصاري قال وهو يداعب الحسين في حجره :"....يا جابر يولد له مولد اسمه "علي" إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيد العابدين، فيقوم ولده، ثمّ يولد له ولد اسمه محمّد، فإن أدركته يا جابر فاقرأه عني السلام"، والرواية رواها الحافظ ابن عساكر بإسناده عن سعيد بن المسيّب عن ابن عبّاس، فلا يلتفت إلى قول ابن تيمية (هذا شيء لا أصل له، ولم يورده أحد من أهل العلم).
ومنها "السجّاد"، قال الإمام الباقر :"إنَّ علي بن الحسين ما ذكر لله عزّ وجلّ نعمة عليه إلاَّ سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله عزَّ وجلَّ فيها سجود إلاَّ سجد، ولا دفع الله عنه سوءاً يخشاه إلاَّ سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلاَّ سجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده، فسمّي السجّاد لذلك".
ومنها "ذي الثفنات"، قال الإمام الباقر :"كانت لأبي في موضع سجوده آثار ناتئة، وكان يقطعها في السنة مرتين، في كلِّ مرّة خمس ثفنات، فسُمّي ذو الثفنات لذلك"، وفي رواية أنّه جمعها في كيس، وأوصى بأن تُدفن معه، مع هذا كلّه كان يقول:"أين عبادتي من عبادة جدّي أمير المؤمنين".
- الأحداث التي عاصرها الإمام
1. مقتل عمّه الإمام الحسن الزكي في صفر سنة 50هـ، شهيداً متأثّراً بسمٍّ دسَّه له معاوية بن أبي سفيان على يد زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي.
2. شهادة أبيه في فاجعة كربلاء في العشر من محرّم سنة 61هـ، وقد ذكر الفضيل بن الزبير الأسدي الرسّان وهو من تلامذة الإمامين الباقر والصادق في كتابه تسمية من قُتل مع الحسين من أهل بيته وأخوته وشيعته بأنّه:" كان عليلاً حضر بعض القتال فارتُثّ ودفع الله عنه، وأُخذ مع النساء".
3. سبيه بعد الفاجعة مع نساء أهل البيت النبوي، وبعد رجوعه إلى المدينة سأله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله متشمّتاً: مَن الغالب؟ فأجابه الإمام :"إذا دخل وقت الصلاة، فأذّنْ وأقمْ، تعرف من الغالب"، وفي جوابه إشارة إلى عدم تغييب جانب انتصار أهل البيت على الجانب المأساوي. وقال الإمام الباقر :"كان أبي علي بن الحسين قد اتخذ منزله من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي بيتاً من شعر وأقام بالبادية، فلبث بها عدّة سنين"، وأغلب الظن أنّه مكث سبع سنين حتى هدأ الوضع السياسي والأمني في الحجاز.
4. فتنة ابن الزبير في مكة المكرّمة سنة 62هـ، قال عنها الإمام لأبي حمزة الثمالي:"أتخوّف من فتنة ابن الزبير"، وكان ابن الزبير قد حبس عشرين رجلاً من بني هاشم لرفضهم البيعة له، وفيهم محمّد بن الحنفية وابن عبّاس الذي قال له:"إنّي لأكتم بغضكم أهل البيت منذ أربعين سنة".
5. ثورة أهل المدينة وواقعة الحرّة بقيادة عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة سنة 63هـ، واحتلال المدينة وإباحتها من قِبَل الجيش الأموي بقيادة مسرف بن عقبة.
6. ثورة التوّابين سنة 65هـ، وكانوا أربعة آلاف مقاتل بقيادة الصحابي سليمان بن صُرَد الخزاعي وهو ابن 93 سنة، من الكوفة ومروراً بكربلاء، ثمّ كانت المعركة في عين الوردة مع طلائع الجيش الأموي بقيادة ابن زياد، وما انتهت المعركة إلاَّ بقتلهم جميعاً.
7. ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي في الكوفة وما حولها سنة 67هـ، وقد تتبّع قتلة الإمام الحسين فقتل كلّ من ظفر به منم، ووفدت جماعة من الشيعة على الإمام بالمدينة ولتقوا بابن الحنفية ، ولمّا سأل الإمام أجابه قائلاً:"يا عمّ لو أنَّ عبدا زنجياً تعصَّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد ولّيتك هذا الأمر فاصنع ما شئت"، فخرج الوفد من عندهما وقالوا: أذن لنا زين العابدين ومحمّد بن الحنفية.
- جهاد الإمام في الساحة العلمية
عاتبه عبّاد البصري على الإقبال على الحجّ وليونته وترك الجهاد وخشونته أجابه بأنًَّ الحجّ مع الذين حرّفوا معالم الشريعة أفضل من الجهاد معهم.
وقام الإمام بجهاده عبر عدّة طرق:
1.توسعة القاعدة الجماهيرية الموالية لمدرسة أهل البيت .
2.رفع مستوى الوعي الإسلامي، فكان الرائد للمدرسة الإسلامية الأصيلة، فتخرّج من تحت منبره أكثر من 160 عالماً من علماء الأمّة، وروي عن ولده الإمام الباقر أنّه قال: كان أبي زين العابدين إذا نظر إلى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه، وقال:"مرحباً بكم، أنتم ودائع العلم، ويوشك إذ انتم صغار قومٍ أن تكونوا كبار آخرين"، وكان من روائع مدرسته رسالة الحقوق التي بدأها بحقِّ الله تعالى وختمها بحقّ أهل الذمّة، وقام كثيرٌ من علماء الأمّة بشرحها، ولا زال فيها عطاء تنتظر أقلام الحقوقيين والمحامين المختصين؛ لأنّ من تصدّى لشرحها هم فقها وعلماء.
3.إيجاد قيادات فكرية متميّزة تحمل الفكر الإسلامي الأصيل تخرّجوا من مدرسته .
4.تصحيح أفكار دخيلة على الفكر الإسلامي بثّها الأمويون، كالعصبية القبلي، واستحقار العبيد وأمّهات الأولاد، فكان يشتري العبيد لا لحاجة فيهم سوى تعليمهم وعتقهم، وما كان العبد يمكث في خدمته أكثر من سنة، حتى أخذ العبيد يرجون أن يكون مالكهم هو الإمام ، فبلغ عتقاؤه 100 ألف عبد، وكان منهم في المدينة 50 ألف.
- صفحات من حياته المشرقة
عبادته: سُئلت إحدى جواريه عنه فقالت:"ما أتيته بطعامٍ بنهارٍ قطّ، وما فرشت له فراشاً بليلٍ قطّ"، وقال عنه حفيده الإمام الصادق :"واللهِ إنَّ علي بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه"، وكان يكثر من الصلاة حتى بلغ ألف ركعة في اليوم والليلة، ويكثر من الصيام ويقول:"إنَّ الله تعالى وكّل ملائكةً بالصائمين"، وكان يكثر من الحجّ ولا يتركه إلاَّ من علّة، وحجَّ عشرين حجّة ماشياً، وما تركه لنا من أدعية خير شاهدٍ على تعلّقه بالله تعالى.
صدقاته: كان يتصدّق بثيابه التي يلبسها، أو يبيعها ويتصدّق بثمنها، ويقول:"إنّي لأستحي من ربّي أن آكل ثمن ثوبٍ قد عبدت الله فيه"، وكان يتصدّق بما يُحبّ، وكثيراً ما قاسم أمواله بينه وبين الفقراء، وما فقدوا صدقة السرّ حتّى مات الإمام ، وكان يعيل بالمدينة مائة عائلة، وكفل أيام واقعة الحرّة أربع مائة عائلة.
من إخباراته بالمستقبل: أخبر أبا حمزة الثمالي بشهادة ولده "زيد"، وما يصنع الأمويون بجسده الشريف.
وأخبر عن حكومة عمر بن عبد العزيز الأموي، وأنّه لا يلبث إلاَّ يسيراً حتّى يموت.
وأخبر أيضاً عن حكومة العبّاسيين، حسب ما رواه ولده الإمام الباقر عنه:"أما إنَّ في صلبه ـ يعني ابن عبّاس ـ وديعة ذريَّة لنار جهنّم، وسيُخرجون أقواماً من دين الله أفواجاً، وستصبغ الأرض من فراخ آل محمد ، تنهض تلك الفراخ في غير وقت، وتطلب غير مدرك، ويرابط الذين آمنوا، ويصبرون حتى يحكم الله".
من أخلاقه: كان إسماعيل بن هشام المخزومي والياً على المدينة، كثيراً ما آذى الإمام ، ولمّا عُزل وليّ مكانه الوليد بن عبد الملك الأموي، وأوقف ابن هشام للمقاصّة، فجاءه الإمام وقال له:"يا ابن العمّ، عافاك الله، لقد ساءني ما صُنع بك، فادعنا إلى ما أحببتَ".
وشتمه رجلٌ، فأعرض الإمام عنه، فاغتاظ الرجل قائلاً:"إيّاك أعني"، فأجابه:"وعنك أُغضي".
وشتمه آخر فقال له :"ألك حاجة"؟.
- إثـارات
أوّلاً: اعتمد الإمام أسلوباً في الجهاد عمل فيه على صعيد الحياة الفكرية فانتهج العبادة والدعاء بلون الفكر المقارع للظلم، فغدا في نفوس المسلمين هو الممثّل الحقيقي لمقام الرسول الأعظم ، ويشهد لذلك موقف استلام الحجر وقصيدة الفرزدق، ولو انتهج أسلوب الكفاح المسلّح لما كان لها جدوى أو طائل، بل قد يفتح باب النقد على مدرسة أهل البيت .
ثانياً: اشتهر في حياة الإمام تذكير الأمّة بفاجعة كربلاء عن طريق عقد المجالس في أيِّ فرصة تتاح له، ولو في سوق القصّابين، وأكثر من البكاء حتّى عُرف بسيّد البكّائين، من خشية الله تعالى تارة، ولمصاب أبيه أخرى، لأنَّ شعيرة البكاء هي الشعيرة الوحيدة التي لا يمكن للظالمين منعها، وهي لغة يفهمها كلّ ذي حسّ، ويتعاطاها الإنسان قبل لغة الإشارة أو لغة الكلام، لذلك ركّز عليها الإمام .
ثالثاً: اهتمام الإمام بطبقة العبيد اهتماماً بالغاً، وإنفاقه الأموال الطائلة لتعليمهم وتحريرهم، وكذا الضعفاء من النّاس والمحرومين والبؤساء والمحتاجين والمعوزين، حيث كان يباشر خدمتهم بنفسه الشريفة؛ كان ذلك منه ليمارس الحقوق الإنسانية في شتّى ميادينها، ويطبّق عملياً رفضه للطبقية، وقيامه بإكرام بني آدم.
رابعاً: استغفار الإمام الكثير حيث أثار إشكالاً عند أتباع مدرسة أهل البيت الذين يعتقدون بعصمتهم، ونشأ الإشكال من الاعتقاد بالملازمة بين الذنب والاستغفار، وازداد الإشكال تعقيداً حينما ذهب بعضٌ إلى الاعتقاد بانَّ المعصوم لا يترك الأولى أو الأفضل، وهو رأي غريب لا تدعمه النصوص الصحيحة ولا تنهض به الأدلة، فتورطوا في حلّ مشكلة استغفار المعصومين واعترافهم بذنوبهم، ما حدا ببعضهم إلى القول بأنّه صدر منهم على طريقة التعليم للأمّة، ولكن لم يستطيعوا حلّ إشكالية استغفارهم في الخلوات، ومن ذلك ما اشتهر من قصّة الإمام أمير المؤمنين في أيام رسول الله وهو في بساتين بني النجّار التي رواها الصحابي أبو الدرداء.
وقال آخرون بأنَّه استغفارٌ عن الأمة، ولكن اصطدم هذا القول بصريح الاستغفار لنفسه في الأدعية والمناجاة، وهو أكثر من أن يحصى، فمن الأدعية المشهورة دعاء كميل، ودعاء عرفة، ودعاء أبي حمزة الثمالي، ودعاء التوبة، وغيرها، ومن المناجاة مناجاة التائبين، ومناجاة الشاكين، وغيرهما.
ولو كان استغفاراً للنّاس لصرّح بذلك كما في أدعية الإمام في الصحيفة السجّادية، كدعائه لأبويه :"...اللهم وما مسّني من أذىً، أو خلص إليهما عنّي من مكروه، أو ضاع قِبَلي لهما من حقّ، فاجعله حطّة لذنوبهما، وعلوّاً في درجاتهما، وزيادةً في حسناتهما، يا مبدّل السيئات بأضعافها من الحسنات،،،"، وكدعائه لأولاده"...وأعذني وذريّتي من الشيطان الرجيم،،،أسكنته صدورنا، وأجريته مجاري دمائنا،،،"، وكدعائه لجيرانه وأوليائه:"...اللهم أجزِ بالإحسان مسيئهم، واعرض بالتجاوز عن ظالمهم...".
والصحيح في حلِّ الإشكال أنَّ ذلك صدر منهم من مقام العبودية لله تعالى، فإذا لاحظ المعصوم مقام ربّه، ولاحظ مقام عبوديته واستشعر موقفه بين يديه سبحانه، فإنّه لا يملك سوى الاستغفار والإنابة إلى مقام العزّة والجلالة، وعصمة المعصوم إنّما هي بملاحظة الجانب البشري، أي أنَّه معصوم بالنسبة للبشر، وليس بنسبته إلى مقام الربّ، فلا يرى المعصوم لنفسه قدراً أو قيمةً أمام ربّه تبارك وتقدّس، وبذلك ظهر أنَّ الاستغفار لا يتوقّف على صدور الذنب من المكلّف، فالإشكال من أساسه مبنيٌ على بناء غير صحيح، ومن هنا نفهم كثرة استغفاراتهم والواصلة إلى أربعة آلاف استغفار في اليوم والليلة، وهو لم يقترف ذنباً انطلاقاً من الإيمان بعصمته ... والحمد لله ربّ العالمين .