فهم متأخر جدا للرئيس المخلوع

أ . بدر الشبيب *

 في خطابه الأخير قبل أن يهرب من بلاده بيوم واحد كرر الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي عبارة ( أنا فهمتكم ) أكثر من مرة ملقيا باللائمة على من حوله بحجب الحقائق عنه والتسبب في تعطيل مشروعه في الديمقراطية والحريات!!، وأنه سيحاسبهم على ذلك.

لم يوجه أي لوم لذاته ولم يمتلك الشجاعة ليواجه لحظة الحقيقة ويحمل نفسه مسؤولية الأوضاع المأساوية التي وصلت لها بلاده، فالمسؤول هم الدجالون والطبالون الذين لم يكن لهم هم سوى الاشتغال بالمديح الزائف والتقارير المزورة التي تؤكد دائما أن الأمور على ما يرام وأن الشعب يعيش في ثبات ونبات.

لكن أليس هو من أحاط نفسه بهؤلاء الانتهازيين الذين خذلوه كعادتهم على مر التاريخ؟ أليس هو من كمم الأفواه الحرة التي كانت تقول الحقيقة المرة، لأنه لم يكن يريد أن يصغي إلا لعبارات الثناء والإطراء التي يجيدها المنافقون من المحيطين به وغيرهم؟
ونقصد بغيرهم أمريكا وأوروبا والمنظومة التابعة لهما والتي كانت تشيد دائما بأداء بن علي في إدارة بلاده وتحقيق التنمية فيها، فطالما كان ناجحا في قمع ما يسمونه بالأصولية الإسلامية فلا بأس بغض النظر عن ممارساته التي تنتهك أبسط حقوق الإنسان، هذه الثيمة التي يتشدق بها الغرب ليل نهار. بل إن منتدى دافوس الاقتصادي في تقريره السنوي 2008-2009 م صنف تونس في المرتبة الأولى مغاربيا وأفريقيا بالنسبة للتنافسية الاقتصادية، وأشاد بالإنجازات المتعلقة بالمؤسسات والبنية التحتية، وما حققه الاقتصاد التونسي من استقرار وانعكاس ذلك على قطاعات الصحة والتعليم الابتدائي والتعليم العالي وسوق العمل أيضاً.

وحين تأكدت أمريكا وفرنسا من قرب سقوط النظام انقلبتا رأسا على عقب لتسارعا للإشادة بشجاعة الشعب التونسي، ولتعلنا براءتهما من نظام بن علي كما تبرأ الشيطان من أتباعه ومريديه؛ وفي هذا درس بليغ لمن يقرأ الكتاب التونسي من آخره.
( أنا فهمتكم ).. احتاج بن علي 23 عاما ليفهم ما يريده شعبه، فأطلق في الوقت الضائع وعودا بالجملة كان يكفي الشعب بعضها قبل ذلك؛ وعدهم – كما جاء في خطابه الأخير- بتخفيض أسعار المواد والمرافق الأساسية ورفع ميزانية التعويض، ومنح الحرية الكاملة للإعلام وعدم غلق مواقع الانترنت ورفض أي شكل من أشكال الرقابة عليها، وتشكيل لجنة ( مستقلة! ) للنظر في قضايا الفساد والرشوة وأخطاء المسؤولين، وفتح المجال لحرية التعبير السياسي والتظاهر السلمي، ودعم الديمقراطية وتفعيل التعددية، والتنازل عن فكرة الرئاسة مدى الحياة.

لم يصدقه الشعب الذي قرر أن لا يلدغ من نفس القصر مرتين، فلم يكن له من خيار سوى حزم حقائبه والرحيل ليفاجأ بتنكر أمريكا وفرنسا له وأن الغرب لا يعرف الصداقات الدائمة بل المصالح الدائمة. لقد فهم ذلك متأخرا.

تونس ليست بدعا من الدول، فما شهدته تونس يمكن أن يحدث في أي مكان آخر يعيش ظروفا مشابهة من الفساد والقمع وكبت الحريات وتفشي البطالة والفقر وسوء توزيع الثروة؛ ولا أحد يمكنه أن يتنبأ بلحظة الانفجار. لا أحد يعرف متى يطلق محمد البوعزيزي صرخته المدوية ضد امتهان كرامته.

وما شهدته تونس يؤكد أن الشباب هم الأكثر قدرة على تغيير الواقع، وأنهم أكثر نضجا وأعمق وعيا من كثير من أدعياء الخبرة السياسية ومنظري الأحزاب. لقد استطاع الشباب بما ابتكروه من أساليب استفادت من تكنولوجيا الاتصالات أن يتجاوزوا كل الجدران والأسوار التي أقيمت حولهم، وأن يسددوا ضربة قاضية للقبضة الأمنية الحديدية للنظام؛ استفادوا من المدونات والفيسبوك وتويتر واليوتيوب والرسائل النصية وغيرها.

منذ العام 1934 م، وأبو القاسم الشابي ينتظر في قبره من يحفظ بيته الأشهر ليترجمه على أرض الواقع حتى يتسنى للشابي التأكد من استجابة القدر لإرادة الشعوب، لينام بعد ذلك مطمئنا إلى مصداقية مقولته. لم يخيب آماله التونسيون الذي يحفظون قصيدته عن ظهر قلب، فقرروا أن يريدوا الحياة الكريمة، وسرعان ما استجاب لإرادتهم القدر.

 

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام