الشراكة أولا
دولت باهشلي، زعيم حزب الحركة القومية، والمتمسك بالنظريات القومية التركية، التي ترى في أي حل للقضية الكردية سعياً إلى تقسيم تركيا والاستسلام لحزب العمال الكردستاني، والذي كان يهاجم حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري على مواقفهما من أكراد تركيا، حيث يرى بأن تلك المواقف ضيعت حقوق الأغلبية التركية لصالح الأكراد والأعراق الأخرى.
هذا القومي حتى النخاع، قام مؤخرا - قبيل الانتخابات البرلمانية - بزيارة ديار بكر ذات الأغلبية التركية داعيا إلى الوحدة والتماسك من أجل تركيا وترك التفريق على أساس العرق، معلنا أن أبناء تركيا، من شتى الأجناس والأعراق، تشاركوا الماء والهواء ودافعوا عن تركيا عبر مئات السنين.
هذه الخطوة وما صاحبها من تغيير في المواقف تجاه القضية الكردية ما كانت لتتم لولا ما قام به حزب العدالة والتنمية من التعاطي بأسلوب جديد ومختلف مع الأقلية الكردية التي تعرضت منذ العام 1924 م إلى محاولات حثيثة لطمس هويتها الثقافية ومنع لغتها في المدارس والمؤسسات الرسمية بسبب الروح الشوفينية الاستعلائية التي تعاملت مع الهويات الأخرى غير التركية على أساس أنها مشكلات ليس لها من حل سوى الصدام معها ووأدها. هكذا يفعل تضخم الهوية – أيا كانت دينية أو قومية أو مذهبية أو عرقية أو غيرها – فعله الساحر في تخدير العقل والإصابة بعمى الانغلاق الفكري وشلل التزمت الرباعي. فبالرغم من أن الأكراد يمثلون ثاني قومية في تركيا التي تضم أكثر من 32 أقلية قومية ودينية، إلا أنه تم تجاهلهم في دستور 1924 م وما بعده، واستخدمت الوسائل الإكراهية لفرض نظام الهوية الواحدة.
ما قام به حزب العدالة والتنمية من إعلانه عن نيته وضع خريطة طريق لتحقيق المواطنة الكاملة للأكراد في ظل سيادة الدولة التركية، وما تبع ذلك من خطوات عملية ربما لم تصل بعد إلى مستوى طموح الأكراد، ساهم – على أية حال - في فتق الانسداد التاريخي في أفق القضية الكردية، وفتح للأكراد نافذة سياسية على مستقبل أفضل.
لا أظن أن باهشلي قد انقلب على نفسه وغير قناعاته بين عشية وضحاها، بل إن خطوته جاءت في سياق كسب أصوات الناخبين الأكراد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بعد أن أصبحت ذات وزن يحسب لها ألف حساب. وبقول آخر فإن المعطيات الجديدة والمكتسبات التي تحققت للأكراد على أرض الواقع فرضت نفسها في المعادلة الانتخابية التركية، وهذا معناه أنه كلما تطورت مشاركة الأكراد في العملية السياسية، وكلما اقتربوا بقوة الدستور والقانون من التحول من مواطنين من الدرجة الثانية إلى مواطنين كاملي المواطنة، كلما خفف ذلك من حدة المتعصبين لأنهم سيجدون أنفسهم مضطرين لقبول الأمر الواقع أو البقاء خارج التاريخ.
ومن هنا فإن الأكراد في تركيا اليوم وبعد الكفاح الطويل المرير لأكثر من ثمانين سنة يبحثون عن شيء واحد هو الشراكة الحقيقية مع غيرهم من مكونات الوطن. هذا ما عبر عنه النائب الكردي ألتان طان حين ذكر أنه قال لأردوغان وجها لوجه: إن الأكراد لا يريدون الأخوة، بل يريدون الشراكة، ومن بعدها تأتي الأخوة.
ربما لا يعجب البعض كلام النائب الكردي زعما منهم أن الأخوة أعمق من الشراكة، وهو زعم صحيح في مجمله، إلا أن الأخوة الحقيقية تحتاج بالفعل إلى برامج تجسدها على الأرض ومن أهمها الشراكة، وبدون ذلك ستبقى مجرد كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع.