ما رأيت إلاجميلا ..
زينب،كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين وأهل بيتك؟
- ما رأيت إلا جميلاً .. هؤلاء قوم كتبالله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم, وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك امك يا بن مرجانة.
زينب في مجلس ابن زياد
لكل إنسان قَدَرَهُ من السعادة، كما له حصته من المعاناة،لكن التبصر في الأمور وجلاء حقائقها من خط المعاناة هو أمر يقتضي ما يشبه النبوءة ..النبوءة التي تختلف وتتباين من نفس لأخرى حسب عمق يقينها. بالطبع لن تفلتنا الحياةمن خوض المعارك وتوابعها ولا من نظرات التشفي والتلظي حين تنهار علينا الأبنيةفجأة وتضعنا الأقدار بدون مقدمات كما رفعتنا سابقا .. فجميعنا تقلبه الأقداربمصائب تهده أحيانا، لتمايزه وترفع من قدره أو لتختبره، والمصائب إن أتت فهي لاتجيئنا فرادى .. ولن يبدو عجبا أن يطال الحُر شماتة الأعداء، ليس لأن خللا ألم به،بل لأن هذه حال الدنيا لا تصفو لأحد.
لو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكانرسول الله فيها مخلد
فالحياة تتلون من تلقاء نفسها، لذا ترينا تقلبات أهلها وغدرهم،وإن كان التشفي والتلظي له وقع مؤلم في النفس، فهو مع الذين لا إيمان لهم يبدو أمرمحبط للغاية، فلا مرتكز تعتمده إنكساراتهم ولا متكأ يخفف عنهم مرارتها .. لكنما هوالإيمان وحده من يصلب المرء منا ويقوي عوده يصوغ النفوس بشخصيات قوية تضيئ فصول الحياة.. وهذا يحصل مع أولئك اللذين يتعلقون بالسماء ويؤمنون بتقاديرها، يوحون برؤياتقدح في الناس اليقين، ويسجلون في صفحات التاريخ قفزات تمكنهم من تفعيل منطلق الإيمانوالصبر، فيغيب الإحباط عن أرواحهم وسط الشماتات المتقاذفة، ويخبو الحزن عنهم وسطتضخم التعلق بالرسالة ومسارها، وتمتلئ نفوسهم بالثقة والعزيمة لأنهم في جنب الله.
ولتجربة السيدة زينب في معركة كربلاء ملحمة حقيقية تستعرضهذا المعنى، حيث كانت تمثل بُنيَة سليمة راحت تتنفس وتندرج في حضن الإيمان بالقضيةرغم المعاناة التي عاشتها وهي تؤدي دورها البطولي العظيم، فبعض المعاناة تمايزالناس وبعضها تقوي عزائمهم بينما الآخر يجعلهم يقدمون على مجابهتها بجسارة أوينهزموا منها، فلا أحد يعرف ما تجره الأقدار إليها .. أليست هذه تقلبات الدهر ومفاجأته.
كان الحسينفي كامل الإقتناع أنه يخط الحقيقة، وكانت زينب على أثره تخطو خطواتها بثبات ورضا.. تعرضت لما هو أكبر من الاحتمال العادي لرجال أشداء، فضلا عن كونها ربيبة عزوفخر تحملها الأيام لمجلس أقل ما يقال فيه أنه مجلس فسق وفجور، ولأشخاص يملأهمالحقد ويغلفهم الكره بالسواد، ويجعلها تتلقى الصفعات واحدة تلو الأخرى ويشمت بهاالشامت، سألوها تهكما في مجلس ابن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين وأهل بيتك، فقالت أنها ما رأت إلا جميلاً.
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الأعداء
رباه .. كم هي تعيسة على الحُر لحظة الشماتة، وأتعس منهاأن تكون بلا مقابل يخفف ألمها، ويهون وقعها من الإرتطام الذي يمزق النفس .. شماتةالأعداء مؤلمة، وتراقصهم على الجراح ينكأها ويزيدها نزيفا .. والتكاذب على الحقيقةأشد إيلاما على النفس حتى من فقد الأحبة ومن السبي لحُرة مثلها.
أيكون موقف الإنسان صعب الفهم أحياناً .. يعاني لكنهيقاوم كما فعلت زينب، حتى أننا نستغرب لهاسعة الصبر وقدرتها على التجلد والتتلمذ على طاعة الله والرضا بقضائه. أولئك أشخاصنذروا أرواحهم لله، شعلة دافقة من الفكر والروح ترتقي لتحقيق الإنسانية وحفظالحقيقة، تمثل أنموذج للطاعة والتسليم. لقد وصلت زينب لذاتها وهي تستعرض تاريخهاوأهلها، في حين وجدت المعركة مجزرة تجرها لمجلس فاسق، ومن ثم لخربة تضيق بهم، ويكاديسقط سقفها العاري وتتهاوى أشرعتها عليهم، وهي التي يعلمها الحسين كيف تتصرف وكيفتمايز بين خطوطها .. لكن الدسائس والنيل من عزة المرء أمر لا يطيقه كل حر، ولايصبر عليه أي أحد، ولو لم يكن الإيمان يصلب عودها لما كان لمخلوق أن يحتمل ما تحتمل.
لقد وصلت المعاناة لمرحلة يضيق معها الكلام وتغص الدمعةفي محجرها .. تلك هي مجالات النفس الإيمانية حين تتوحد مع ذات الله وتطلب منهالعفو والعافية، تتعلم كيفية قراءة الأحداث بجدارة حتى تخدم الموقف.. فما كل صراخ يسمعحقيقة، وما كل ما يقال يصدق، وما كل شماتة نيل من صاحبها، وما كل هزيمة انكسار، ولاكل فوز نصر لصاحبه، ففي كربلاء مشاهد تجتر ملحمة النفس الإنسانية. وللحقيقة فإنالمعاناة الطويلة انتهت بانفطار من نوع آخر شق كذبات العدو فارتطم بهم موقفهاالعظيم وهمش نصرهم المزعوم، فخلفت ثروات ضخمة تعمر النفس وتخلد الإنسان وتقويعزيمته