قبل العمل نحتاج للتفكير في نتائجه
عندما يقوم شخص ما بتجاوز إشارة المرور الحمراء، فإنه يكون قد وضع نفسه تحت طائلة المساءلة والقانون. أما هل ينال عقابه أم لا، فهذه مسألة أخرى. فقد يفلت من العقاب لأن مخالفته لم يتم رصدها من قبل الجهات المسؤولة، أو أنها رُصِدت ولكنه بسبب نفوذه أو رشوته أو علاقته مرت كأن لم تكن. وحتى في حال إيقاع العقوبة، فإنها تختلف من دولة لأخرى، بل ربما من مكان لآخر في نفس الدولة تبعا لما سنه المشرعون من قوانين.
هذا النوع من العلاقة بين العمل والجزاء هو ما يسمى بالعلاقة الاعتبارية، أي أنها تكون حسب ما يعتبره المسؤولون عن تشريع الأنظمة وسن القوانين. فهي إذن ليست علاقة حقيقية؛ ولأنها كذلك فإنها قد تتخلف أي لا يتم إمضاؤها، وقد تختلف كما ذكرنا. بل الأمر أبعد من ذلك فإن نفس العمل قد يُعاقب عليه بالإعدام في بلد ما، ويكافأ في بلد آخر.
فسلمان رشدي صاحب رواية (آيات شيطانية) حكم عليه الإمام الخميني قدس سره بالإعدام بسبب هذه الرواية المسيئة لمقام النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نفس الوقت – وبغض النظر عن الأسباب والحيثيات- حاز صاحبها على الميداليات والتكريم والحفاوة في الغرب.
هذا هو النوع الأول من العلاقة بين العمل والجزاء.
هناك نوع آخر تكون فيه العلاقة بين العمل والجزاء علاقة حقيقية. مثال ذلك عندما يقوم أحدهم في لحظة يأس وانهيار بإلقاء نفسه من ارتفاع شاهق، فإن الجاذبية الأرضية لن تجامله ولن ترأف بحاله أو تتفهم ظروفه. كما أنها – أي الجاذبية – لن تكترث لنفوذه وسلطانه؛ بل ستقوم بتطبيق قانونها عليه مباشرة ودون أي تأخير.
كذلك من يشرب السم القاتل فإن السم لن يتحول في أمعائه إلى عسل فيه شفاء للناس، بل سيؤدي السم وظيفته على أكمل وجه دون اكتراث بالفم الذي شربه لمن يكون، وما هو منصبه أو انتماءاته.
وهناك علاقة من نوع ثالث بين العمل والجزاء هي الأرقى والأشد ارتباطا بحيث لا يمكن فكاكها. هذه العلاقة يمكن أن نسميها علاقة الوجه الآخر.
بحسب هذه العلاقة، فإن لكل عمل نعمله وجها آخر غير مرئي يمثل حقيقة العمل، وهو ما سنراه يوما ما حين ينجلي عن قلوبنا الرين والصدأ، فتُرفع عن أبصارها الغشاوة، وتتعرى أمامها الحقيقة.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (30) سورة آل عمران.
فما يجده الإنسان أمامه يوم القيامة بحسب الآية هو العمل نفسه متجسدا له، وهو - أي العمل- سيكون الجزاء، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. فلا فرق إذن بين العمل والجزاء.
هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90) سورة النمل.
هذه العلاقة كانت موجودة مع العمل منذ وقت صدوره، ولكننا لم نشعر بها بسبب الغفلة التي كنا فيها في الحياة الدنيا.
لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) سورة ق.
وقد أكد القرآن والروايات الشريفة على هذا النوع من العلاقة ونبهت لها. فالغيبة مثلا في حقيقتها التي لا نراها في الدنيا بسبب حجاب الأعمال هي أكل للحم الأخ ميتا. وهو أمر في غاية الفظاعة والبشاعة، ولكننا نمارسه يوميا دون أن نشعر بقبحه، بل أصبحت لدينا قابلية لهضمه فلا نتقيأ منه شيئا.
(وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) سورة الحجرات.
والذي يأكل أموال اليتامى ظلما فإنه يأكل في حقيقة الأمر نارا، ولكنه لا يشعر بها في الدنيا بسبب انغماسه في ملذاتها وشهواتها. أما يوم القيامة فستظهر له جلية واضحة.
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) سورة النساء.
فالآية لم تقل: سيأكلون في بطونهم نارا، بل قالت: يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا. أي هنا في الدنيا، ثم يوم القيامة: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا.
يقول السيد كمال الحيدري حفظه الله: إنّ الآخرة ظرف ظهور الجزاء لا وجود الجزاء، فما كان خافياً عليك ولم تستطع رؤيته هنا، سوف تلتفت إليه وتراه يوم القيامة; وذلك لأنّك بسبب معاصيك حُرمت من النظر إلى باطن العمل، كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) (المطفّفين ) . كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) سورة التكاثر. وأمّا من كانت عنده تلك العين فهو يرى باطن الأعمال في الدُّنيا والآخرة وينظر إلى الناس فيقول: هذا في نار جهنّم وذاك في جنّة النعيم.
أما الروايات فنكتفي فيها بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيس بن عاصم رضي الله عنه.
يقول قيس: وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم فدخلت وعنده الصلصال بن الدلهمش فقلت: يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فانا قوم نعبر (أي نتردد) في البرية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"يا قيس، إنّ مع العزّ ذلاًّ، ومع الحياة موتاً، ومع الدُّنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيء رقيباً وعلى كلّ شيء حسيباً، وإنّ لكلّ أجل كتاباً، وإنّه لابدّ لكَ من قرين يُدفن معك وهو حيٌّ وتُدفن معه وأنت ميّتٌ، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً ألأمك، ثمّ لا يُحشر إلاّ معكَ ولا تحشر إلاّ معه ولا تُسأل إلاّ عنه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنّه إن صلُح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلاّ منه، وهو فعلك"
والفعل لا يقتصر على العمل الخارجي فقط، بل يشمل الجوارح والجوانح حيث النية وحديث النفس ووساوسها وأفكارها.
ما أعظمها من موعظة، وما أحرى بنا من الإصغاء إليها بكل حواسنا الظاهرة والباطنة.
لنفكر منذ الآن في كل عمل نعمله ماذا يستبطن من جزاء قبل أن نُقدم عليه حتى لا نفاجأ بالحقيقة مرة عارية ذات وجه لا نستحسنه، بل نشمئز وننفر ونتقزز منه.
لو أعملنا هذا الأمر لتغيرت حياتنا تماما، ولزرعنا لنا أشجارا وبساتين وأنهارا في الجنة.
نصيحتي باختصار: قبل العمل نحتاج للتفكير في نتائجه.
وبالتعبير الأجمل للحديث الشريف: موتوا قبل أن تموتوا.