حق البطن
(وَأَمَّا حَقُّ بَطْنِكَ فَأَنْ لا تَجْعَلَهُ وِعَاءً لِقَلِيلٍ مِنَ الْحَرَامِ وَلا لِكَثِيرٍ، وَأَنْ تَقْتَصِدَ لَهُ فِي الْحَلالِ وَلا تُخرِجَهُ مِنْ حَدِّ التَّقْوِيَةِ إلَى حَدِّ التَّهْوِينِ وَذَهَاب الْمُرُوَّةِ، وَضَبْطُهُ إذَا هَمَّ بالْجُوعِ والظمأ فَإنَّ الشَّبْعَ الْمُنْتَهِي بصَاحِبهِ إلَى التُّخمِ مَكْسَلَةٌ وَمَثْبَطَةٌ وَمَقْطَعَةٌ عَنْ كُلِّ برِّ وَكَرَمٍ. وَإنَّ الري الْمُنْتَهِي بصَاحِبهِ إلَى السُّكْرِ مَسْخَفَةٌ وَمَجْهَلَةٌ وَمَذْهَبَةٌ لِلْمُرُوَّةِ.)
الطعام من الحاجات الأساسية للإنسان لا يستغني عنه أحد أبدا، إذ به قوام البدن، ومنه يستمد طاقته التي يحتاجها لمختلف أنشطته الفكرية والجسدية. وقد أولى الشارع المقدس اهتماما كبيرا بإشباع هذا النوع من الحاجات لدى الناس، فالله تعالى يذكر قريش ويمن عليها بالإطعام بعد الجوع إشارة إلى كونه نعمة إلهية كبرى.
﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قريش﴾
ولكن هذه النعمة قد تتحول إلى نقمة عندما يُساء استخدامها، إما بتلويث البطن بالمحرم من الأطعمة والأشربة، قليلها أو كثيرها، وإما بتجاوز الحد في تناول الأطعمة والأشربة المباحة. ولكل من التلويث وتجاوز الحد آثار وضعية وأخرى تكليفية ينبغي على المرء أن يبتعد عنها.
ومن هنا ركز الإمام علي بن الحسين في هذا المقطع الذي يتحدث عن حق البطن على ثلاثة أمور:
1- تنزيه البطن عن الحرام قليله وكثيره.
2- الاقتصاد في الحلال. فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه". وقد حث القرآن الكريم على الاقتصاد أيضا كما جاء في آية محكمة من سورة الأعراف:﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (31).
3- التحكم في شهوة البطن خصوصا عند الإقبال على الطعام والشراب في حالة الجوع والظمأ.
الهدف من الطعام – كما يبينه الإمام – هو تقوية البدن، وهذا يحصل من خلال الأكل المعتدل بمقدار الحاجة فقط. أما الزائد عنها فإنه يسبب ضعف قوى البدن وتكاسلها عن القيام بالوظائف المطلوبة، بل إنه يؤدي إلى أخطر من ذلك وهو ذهاب المروءة، بالإضافة للآثار السلبية على عمل العقل وعملياته.
والمقصود بالمروءة كمال الرجولية والإنسانية، أو هي الاستقامة بحسب الموازين العرفية كما ذكر صاحب مجمع البحرين. وقد عرفها الإمام الحسن عليه السلام حين سئل: ما المروءة، فقال: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها). فالمروءة تطلع للمعالي وترفع عن الصغائر والتوافه. كما عرفها عليه السلام بتعريف آخر مشابه، إذ قال: (المروءة في شيئين: اجتناب الرجل ما يشينه واختياره ما يزينه).
لذا اعتبرها الفقهاء عنصرا من عناصر تعريف العدالة التي عرفوها بأنها: مَلَكة راسخة تبعث على فعل الواجبات وترك المحرمات والابتعاد عن منافيات المروءة.
بقي أخيرا أن نذكر بعض المرويات الشريفة التي تنهى عن الشبع الزائد وتبين آثاره الضارة.
عن النبي : لا تشبعوا فيطفأ نور المعرفة من قلوبكم.
عن علي : إياكم والبِطنة، فإنها: مقساة للقلب، مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسد.
وعنه: لا تجتمع الفِطنة والبِطنة.
وعنه: الشبع يفسد الورع.
وعنه أيضا: إذا أراد الله سبحانه صلاح عبده، ألهمه قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام.
وعن الإمام السجاد : "إن العاقل عن الله الخائف منه العامل له ليمرن نفسه ويعودها الجوع حتى ما تشتاق إلى الشبع، وكذلك تضمر الخيل لسبق الرهان."
أعتقد أن خبراء التغذية لن يجدوا أفضل من هذه الأحاديث الشريفة لحث المسلمين جميعا على الاعتدال في تناول الغذاء من أجل صحة سليمة، حيث يعاني مجتمعنا الإسلامي من التبذير والإسراف وهدر المليارات في الولائم، ثم الاضطرار إلى إنفاق مليارات أخرى على الصحة للتخلص من الأمراض والتخمة.