حق الهدي
وَأمَّا حَقُّ الهَدْيِ فَأَنْ تُخلِصَ بهَا الإرَادَةَ إلَى رَبكَ وَالتَّعَرُّضَ لِرَحْمَتِهِ وَقَبُولِهِ ولا تُرِيدَ عُيُونَ النَّاظِرِينَ دُونهُ، فـَإذَا كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مُتَكَلِّفًا ولا مُتَصَنِّعًا وَكُنْتَ إنَّمَا تَقْصِدُ إلَى الله. وَاعْلَمْ أَنَّ الله يُرَادُ بالْيَسِيرِ وَلا يُرَادُ بالْعَسِيرِ كَمَا أَرَادَ بخَلْقِهِ التَّيْسِيرَ وَلَمْ يُرِدْ بهِمُ التَّعْسِيرَ، وَكَذَلِكَ التَّذَلُّلَ أَوْلَى بكَ مِن التَّدَهْقُنِ(*) لأَنَّ الْكُلْفَةَ وَالْمَئونَةَ فِي الْمُتَدَهْقِنِينَ. فَأمَّا التَّذَلُّلُ وَالتَّمَسْكُنُ فَلا كُلْفَةَ فِيهِمَا وَلا مَئونةَ عَلَيْهِمَا لأَنَّهُمَا الْخِلْقَةَ وهُمَا مَوجُودَانِ فِي الطَّبيعَةِ. وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ.
الهدي أو الأضحية شعيرة من شعائر الله . وشعائر الله "تشمل جميع الأعمال الدينيّة التّي تذكّر الإنسان باللّه سبحانه وتعالى وعظمته" كما يقول صاحب الأمثل في تفسيره. فالشعائر هي العلامات والدلائل التي يستحضر من خلالها مؤدي الشعيرة عظمة الباري جل وعلا، ومن هنا يكون تعظيم الشعائر واحترامها كاشفا عن حالة داخلية ذات مستوى عميق يسميها القرآن الكريم (تقوى القلوب).
فهم الشعائر يحتاج دائما إلى تجاوز ظاهر الأشياء والنفاذ إلى أعماقها، وهذا لا يتأتى لكل أحد. لذا فإن الشعائر تقع بين فهمين خاطئين: الأول حين تؤدى الشعيرة أداء شكليا خاليا من مضامينها ودلائلها، فتكون مجرد طقس لا يحدث أثرا في النفس، ولا يكشف عن تقوى القلب. والثاني حين ينظر الآخر غير المسلم مثلا إلى الشعيرة نظرة ظاهرية، فلا يرى فيها إلا ممارسة غير حضارية تدل على تخلف المسلمين. هكذا ينظر بعض غير المسلمين إلى ذبح الهدي وإلى السعي بين الصفا والمروة وإلى الطواف وإلى رمي الجمار وغيرها من مناسك الحج التي هي من شعائر الله. ومما لا شك فيه أن للمسلمين دورا في هذا الفهم الخاطئ عند غيرهم حين لا يؤدون الشعائر حقها، ولا يقومون بتبليغ مضامينها للآخرين، بل حتى لأنفسهم.
لقد ارتبط ذبح الهدي بالتسليم والخضوع والإخلاص لله تعالى، كما جاء في قصة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام، فهو تعبير عن الاستعداد التام لبذل النفس والنفيس في سبيل الله تعالى. ولكي يكون التعبير حقيقيا كاشفا عن نية صادقة، فإن الفعل ينبغي أن يصدر عن قلب لم تتعطل حواسه فيبصر ما لا يبصر الآخرون في الشعيرة ذاتها، مما يبعث فيه تعظيمها وتبجيلها وتوقيرها.
﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (32) سورة الحج.
لهذا السبب بالذات قبل الله من هابيل القربان ولم يقبله من قابيل:
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ (27) سورة المائدة.
الإمام علي بن الحسين عليهما السلام يبين في هذا المقطع من رسالة الحقوق حق الهدي أو الأضحية المتمثل أولا في إخلاصها لله تعالى، فلا ينبغي أن يُراد بها سوى وجهه الكريم والتعرض لنفحات رحمته التي وسعت كل شيء والطمع في قبوله، تماما كما فعل أبونا إبراهيم عليه السلام حين خرج وولده إسماعيل إلى منى وهما مستعدان لتنفيذ أمر الله.
إن إرادة وجه الله تعالى والانقطاع عما سواه تبعد الإنسان عن التصنع والتكلف فيؤدي العمل على سجيته وفطرته، وهذا هو المراد من الهدي ثانيا، أي أن يقرب الإنسان من حالته الفطرية البسيطة الخالية من شوائب الرياء والسمعة، فكأن الذبح في واقعه ذبح للأهواء والعلائق التي تبعد الإنسان عن الله. وهو ما أمر به الإمام الصادق عليه السلام في قوله:" واذبَحْ حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة".
كما يشير الإمام السجاد عليه السلام إلى أمرين هامين يكون لفهمهما والعلم بهما دخل كبير في أداء شعيرة الهدي حقها: الأول؛ أن الوصول إلى الله يكون بالميسور لا بالمعسور، فالمطلوب أن يبذل كل ذي سعة من سعته هو لا أن يكلف نفسه فوق طاقتها. وفي هذا درس تربوي عميق، إذ ينبغي أن تكون حياتنا مبنية على التيسير لا التعسير. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.
الثاني: التذلل يمثل حالة انسجام مع الطبيعة المذللة من حولنا، بينما التكبر أو (التدهقن) بحسب الرواية خروج عن الطبيعة:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) سورة الملك.
وفي هذا نبذ للتكبر والمستكبرين في الأرض، ودعوة إلى التواضع الرفيع. كما أن تعظيم الشعائر لن يتحقق في الخارج دون الشعور الداخلي بالذلة أمام عظمة الله سبحانه، وفي ذلك ترسيخ وتعزيز لحالة التقوى. يقول الله تعالى:
﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (37) سورة الحج.