حق المستنصح
وَأمّــا حَقُّ المُسْتَنصِحِ فَإنَّ حَقَّهُ أَنْ تُؤَدِّيَ إلَيهِ النَّصِيحَةَ عَلَى الحَقِّ الَّذِي تَرَى لَهُ أنّهُ يحْمِلُ، وَتخرُجَ المَخرَجَ الَّذِي يَلينُ عَلَى مَسَـامِعِهِ، وتُكَلِّمَهُ مِنَ الْكَلامِ بمَا يُطِيقُهُ عَقلُهُ، فَإنَّ لِكُلِّ عَقْلٍ طَبقَةً مِنَ الْكَلامِ يَعْرِفُهُ ويَجْتَنِبُهُ، وَلْيَكُنْ مَذهَبَكَ الرَّحْمَـــةَ. ولا قُوَّةَ إلا باللهِ.
جاء في لسان العرب لابن منظور: " نَصَحَ الشيءُ: خَلَصَ. والناصحُ: الخالص من العسل وغيره. وكل شيءٍ خَلَصَ، فقد نَصَحَ... والنُّصْح نقيض الغِشّ ".
إذن عماد النصيحة أن تكون محضة خالصة لا يشوبها شيء من الهوى والغش والمكر والخديعة. فليس كل ناصح ناصحا، وإن تشبه بالناصحين. ألم يقسم إبليس بأغلظ الأيمان لأبوينا آدم وحواء أنه يريد نصحهما: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) سورة الأعراف. كذلك ادعى إخوة يوسف النصح لأخيهم وهم يبيتون له الشر: ﴿ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ (11) سورة يوسف.
لذا علينا أن نتأكد من أمانة مصدر النصيحة، وخلوها من الأغراض الشخصية والمصالح الذاتية، حتى لا نقع ضحية ناصح محتال كذاب. لقد بين النبي مواصفات الناصح، فقال: " أما علامة الناصح فأربعة: يقضي بالحق، ويعطي الحق من نفسه، ويرضى للناس ما يرضاه لنفسه، ولا يعتدي على أحد". كما أوضح منزلة مثل هذا الناصح بقوله: " إن أعظم الناس يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه ".
في هذا المقطع الشريف من رسالة الحقوق يبين الإمام حقوق من يطلب منا نصيحة في أمر ما، حيث يجب علينا أن نراعي الفروق الفردية بين الأشخاص طالبي النصيحة. فلا يصح أبدا أن نقدم نفس النصيحة للجميع بطريقة واحدة دون الأخذ بعين الاعتبار اختلاف مستوياتهم النفسية وقدراتهم العقلية ومدى تقبلهم للنصيحة.
هذا ما نفهمه من كلام الإمام علي بن الحسين حين يقول: فإنَّ حَقَّهُ أَنْ تُؤَدِّيَ إلَيهِ النَّصِيحَةَ عَلَى الحَقِّ الَّذِي تَرَى لَهُ أنّهُ يحْمِلُ، وَتخرُجَ المَخرَجَ الَّذِي يَلينُ عَلَى مَسَـامِعِهِ، وتُكَلِّمَهُ مِنَ الْكَلامِ بمَا يُطِيقُهُ عَقلُهُ.
لا يكفي إذن أن تكون النصيحة خالصة حتى تكون مقبولة من الطرف الآخر، بل لا بد من دراسة شخصية المتلقي دراسة تستكشف القيم التي يؤمن بها لتشكل نقطة الانطلاق، وتتعرف على نفسيته والمؤثرات فيها، كي يتم استخدام ما ينفع منها بما يساهم في تليين الموقف وإيصال النصيحة بسهولة ويسر، وتتأكد أيضا من مستواه الثقافي وإمكانيات استيعابه لتُناغم خطابها مع نفس تردد موجة الاستقبال لديه.
وقد علل الإمام هذا الأمر تعليلا يصدقه الوجدان، ولكن للأسف يتم تناسيه أو عدم الاهتمام به أثناء تقديم النصيحة. فالإمام يذكرنا بأن " لِكُلِّ عَقْلٍ طَبقَةً مِنَ الْكَلامِ يَعْرِفُهُ ويَجْتَنِبُهُ"، فعقول المتلقين مختلفة، وبالتالي فإن الخطاب الموجه نحوها ينبغي أن يكون مختلفا.
هكذا كانت سنة الأنبياء عليهم السلام، كما قال المصطفى : "إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم". فالمطلوب من الناصح أن يتنزل في خطابه ليصل إلى عقل مستنصحه، وكذا على الخطباء إذا أرادوا إيصال نصائحهم وتوجيهاتهم بنجاح أن لا يغرقوا خطاباتهم بالمصطلحات العلمية الدقيقة أو العبارات الغامضة التي لا يفهمها إلا المختصون، فلكل مقام مقال كما يقولون، وهو مقتضى البلاغة.
بالإضافة لذلك، فقد أوصى الإمام بوضع إطار عام للنصيحة، حيث يجب أن تنطلق النصيحة من قلب رحيم بأسلوب رحيم وتنشد الرحمة للآخر؛ وهو ما عبر عنه الإمام بقوله: " وليكن مذهبك الرحمة ". وما أجمل ما وصف به الإمام علي الناصح الأمين بقوله: " مناصحك مشفق عليك، محسن إليك، ناظر في عواقبك، مستدرك فوارطك، ففي طاعته رشادك، وفي مخالفته فسادك ".