أن يصبح الصمت ســـلام
عُد بي إلى حيث كانت الصفحة نقية وأكثر اشراقا، آن توشمت بها مواقف نبيلة لشخصيات حقيقية في رمزيتها، عُد بي فقط لحيث أفهم معنى التناقضات في هذا العالم المفضوح باقفاصه الملونة التي خنقتنا ببهرجتها المزيفة “أن يصبح الصمت ســـلام “.
أكذوبة نعيشها كل الوقت لننجو، وما النجاة سوى رحلة في قطار قد يتوقف في أي لحظة في محطة ما، يدخله أشخاص مزيفون في عالمنا، وينحدر منه آخرين أنهوا رحلتهم معنا في غضب أو سلام، وهم القلة ! وقد نترجله نحن كذلك دون أن نبلغ وجهتنا.
لطالما كانت مخارج الحياة مختلفة وقت الأزمات صماء فعلا وقت الحاجة، وعاجزة حقيقة عن انجاز الكثير، تحك سقوف الروح المعلقة بقشورها، لكنها بلا نتيجة، لأن قلبها فارغ لا نبض فيه، تستسلم بلا تتويج فتتفاسق فوق هذا الصمت ليصبح ظلها وحيد حين تمده في درب العابرين.
العابرون الذين يجنبون أنفسهم الأذى ويتصالحون مع التوقيت ليحيوا حياة لا حقيقية، مليئة بالزخم والتكرار والنفاق أو الصراخ.
ولا حرائق تستوجب كل هذا الصراخ الكائن في العالم، فانذارات الحريق بلا ضمانات حين تكون الضمائر عفنة، وعفنة جدا، فتصبح المواقف هزيلة.
من يمكنه أن يحمل على عاتقه رسالة فعلية، ولو بقول كلمة حق في هذا الزمن الأغبر، ذي المتغيرات الصعبة كأمانة، إن لم يكن قادر فعلا على كبح الحرائق، ولديه استعداد حقيقي ومهارة فعلية لإخمادها، ومن ينصرها دون دوافع شخصية سوى الإيمان بها، ومن يمكنه أن يكف نفسه عن الأذى، على الاقل إن لم يتمكن من ادراج نفسه تحت ظل حاملين الامانة.
استوقفتني ملاح شخصية هذا الرجل “مسلم بن عقيل” في رحلته التي أداها في مسيرة كربلاء ودفع حياته ثمنا لها، رحلة تبليغ الرسالة والتصدي لها، رغم فوضوية الاحداث، وتداخلها وصعوبتها وكثرة الخذلان، والخيبة التي لفة طقوس الرحلة.
وأتساءل بيني وبين نفسي، أما كان يمكنه أن يتوقف لحظة ما دامت الأمور متصدعة ولا تبشر بالانجاز، لعله ينجو ويساير ركب الذين يبحثون عن النجاة والتكرار وسخافة العيش المكرر والفارغ والباحثين عن العافية بلا هدف !
لكنه كان رجل شريف، والشرفاء أصحاب مواقف يصنعونها لا تصنعهم، ويندر أن يتكرر هؤلاء حين تدق أجراس النهايات ويؤذن بها، كما استوقفتني المرأة التي شاركته بطولة موقفه “طوعة” والتي لا رابط لها به ولا صلة، سوى حقيقة آمنت بها فانطوت تدافع عنها وتختصر ايمانها، تباشير في حنايا القلب والروح تسكبها اصرارا وعقيدة، رغم الرعب المزلزل للنفوس حولها، أما كان يمكنها أن تبحث عن العافية وتطلب السكينة لنفسها ولعمرها وبيتها.
هل فكرا فيما يمكنهما أن يحصلا عليه لو أنهما تجنبا كل هذا الحديث النفسي بينهما وبين ما يعتقدان، لست أظنهما لم يفعلا، لكنهما كانا يصنعان مسيرة الهدفية في حياتهما، ولذا المواقف جاءت تعلم على فهمهما لهذا التصنيع، استمرا يواصلان درب يقينهما رغم كل المسميات المخيفة .
وفي الحياة كثيرين يعترضونك لكونك حقيقي بالنسبة لهم،لامزيف، كثيرون يضايقونك لكونك امرأة أو رجل مختلفين عنهم في الجنس، أو الطبيعة، أو الفكرة، أو المبدأ، أو الموهبة أو العقيدة أو القناعة حتى.
كثيرون أيضا يزعجونك لكون تجربتك مختلفة عنهم، ربما أصغر أو أكبر أو أكثر تميزا منهم، أو حتى أقل، حتى العمر يدخل في مفاوضات هذه الحرب المستعرة، فيجرون حسابات كثيرة فيها لا تعرف وجهتها معهم غير أنك محطة نزاعات بينهم دون سبب معقول !
أيا كانت الأمور فهي تجري بطريقة دائمة تستجلب العراك ولا تخلو من نزاعات ظاهرة أو مستترة ومليئة بالضغينة والحقد الأعمى والقصور عن استيعاب المختلف أيا كان.
فدواعي الحب والكره مختلفة عند البشر، وأسبابهم ليست واحدة لهذا العداء وقلة الحب ناحيتك، وبالطبع نحن لا نولد بكل هذه العداوات أو امتيازات الحب، لكن لمواقفك ينقسم الناس حولك لفرق تصنفك حسب توجهاتها ونقوصها وتطلعاتها، و أيا كانت تقسيماتهم ومحدداتهم لك، فلست بالطبع خاضع كليا لها ولا مسئول تماما عنها ، لأنك وحدك تشكل قائمة تترجل منها مواقفك، وتعيد صياغتها حسب أهدافك، وتبلورها بحسب قناعاتك.
“فمسلم “واصل رحلته ليحمل رسالة الحسين ويبلغها رغم بوادر الخيبات باستقبالها، و “طوعة المرأة الكبيرة التي كان يفترض بها طلب العافية والسلام في سنينها الاخيرة “احتوته وناصرته، وهي امرأة مختلفة عنه ولا تعرفه، في زمن كان الناس يوصدون أبوابهم عن الغرباء والاقرباء على حد سواء ليبحثوا عن السلام و يطلبون العافية والبعد عن الأذى.