كورونا.. بين التمسك بالغيب والأخذ بالأسباب الطبيعية
لا يمكن لأحد أن ينكر أياً من العالمَين؛ عالم الأسباب وعالم الغيب، فكلاهما لا ريب في حقيقتهما وكفى بالوجدان شاهدا على ذلك، بل إن الغيب منطلق عالم الأسباب، فالروح مثلا التي وهبها الله سبحانه وتعالى للأحياء هي غيب، إلا أن عليها المعوّل في الوجود، فلا مجال لإنكار أي من العالمَين.
ولكن الاشتباه يحصل في الأخذ بالأسباب والغفلة عن الغيب أو عكس ذلك، فما الضابطة التي ترفع عنا الغشاوة لتعامل الصحيح في الأخذ بالغيب والأسباب؟.
حتى نتعرف بجلاء على تلك الضابطة لابد أن نفتش عن ذلك في سيرة أهل البيت؛ أ كانت حياتهم جارية بالغيبيات أو على العكس من ذلك، أم سيرتهم هي العمل بكليهما؟
من يقرأ سيرة أهل البيت يتعجّب من خصلة وهي أنهم على الرغم من صلتهم التامة بالغيب ومع ذلك لم يكن من هو أعظم منهم بلاءا ومصيبة!، فما هذه المفارقة! ولماذا لا يرفعون كف الضراعة إلى الله ليغير من حالهم ويكونوا على أفضل حال؟!
هذا لأنهم وصلوا إلى درجة من التعقّل حيث يعلمون ما يريده الله سبحانه منهم، فهم مسلّمين لأمره مفوضين له سبحانه، ومن ميزة أهل البيت حتى على سائر الأنبياء أنهم لا يخالفون الأولى، فهم كما ورد في الزيارة الجامعة: (...المستقرين في أمر الله... والمظهرين لأمر الله ونهيه، وعباده الكرمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) والمقصود (بأمره) إرادته سبحانه، وهذا ما جعلهم مكرمين عنده سبحانه.
وللعلم أنهم لو طلبوا من الله سبحانه لستجاب لهم إلا أنهم يعلمون بما يريده الله سبحانه منهم، فيقدمون إرادته سبحانه على الرغم من أنها خلاف لمصالحهم المادية؛ كما نرى ذلك وضحا جليا في واقعة الطف، وهذا هو معنى (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون).
وهذه القصة تبين لنا سيرة أهل البيت وتعاملهم مع أمر الله سبحانه:
أن رجلا كان عليه دين وكان في حالة فقر «جاء إلى علي بن الحسين ... فقال علي بن الحسين : فقد أذن الله في فرجك. يا فلانة احملي سحوري وفطوري. فحملت قرصتين.
فقال علي بن الحسين للرجل: خذهما فليس عندنا غيرهما، فإن الله يكشف عنك بهما، وينيلك خيرا واسعا منهما.
فأخذهما الرجل، ودخل السوق لا يدري ما يصنع بهما، يتفكر في ثقل دينه وسوء حال عياله، ويوسوس إليه الشيطان: أين موقع هاتين من حاجتك؟ فمر بسماك قد بارت عليه سمكة قد أراحت [1].
فقال له: سمكتك هذه بائرة عليك، وإحدى قرصتي هاتين بائرة علي، فهل لك أن تعطيني سمكتك البائرة، وتأخذ قرصتي هذه البائرة؟ فقال: نعم. فأعطاه السمكة وأخذ القرصة، ثم مر برجل معه ملح قليل مزهود فيه، فقال له: هل لك أن تعطيني ملحك هذا المزهود فيه بقرصتي هذه المزهود فيها؟ قال: نعم. ففعل، فجاء الرجل بالسمكة والملح.
فقال: أصلح هذه بهذا، فلما شق بطن السمكة وجد فيها لؤلؤتين فاخرتين، فحمد الله عليهما، فبينما هو في سروره ذلك إذ قرع بابه، فخرج ينظر من بالباب، فإذا صاحب السمكة وصاحب الملح قد جاءا، يقول كل واحد منهما له: يا عبد الله، جهدنا أن نأكل نحن أو أحد من عيالنا هذا القرص، فلم تعمل فيه أسناننا، وما نظنك إلا وقد تناهيت في سوء الحال، ومرنت على الشقاء، قد رددنا إليك هذا الخبز، وطيبنا لك ما أخذته منا. فأخذ القرصتين منهما. فلما استقر بعد انصرافهما عنه قرع بابه، فإذا رسول علي بن الحسين ، فدخل فقال: إنه يقول لك: إن الله قد أتاك بالفرج، فأردد إلينا طعامنا، فإنه لا يأكله غيرنا، وباع الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم قضى منه دينه، وحسنت بعد ذلك حاله.
فقال بعض المخالفين: ما أشد هذا التفاوت! بينما علي بن الحسين لا يقدر أن يسد منه فاقة، إذ أغناه هذا الغناء العظيم، كيف يكون هذا، وكيف يعجز عن سد الفاقة من يقدر على هذا الغناء العظيم؟
فقال علي بن الحسين : هكذا قالت قريش للنبي : كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الانبياء من مكة، ويرجع إليها في ليلة واحدة من لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوما؟ وذلك حين هاجر منها.
ثم قال علي بن الحسين : جهلوا والله أمر الله وأمر أوليائه معه، إن المراتب الرفيعة لا تنال إلا بالتسليم لله جل ثناؤه، وترك الاقتراح عليه، والرضا بما يدبرهم به، إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبرا لما يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله عز وجل عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنهم مع ذلك لا يريدون منه إلا ما يريده لهم»(١)
فكما يعملون بالأسباب كذلك يعملون بمفاتح الغيب وهي المعاجز والكرامات والتي منها الاستشفاء بتراب الامام الحسين.
وكما أن الأدوية فيها ما يقتضي الشفاء إذ ليس فيها نتيجة حتمية، كذلك الاستشفاء بأسباب الغيب تقتضي الشفاء وليس لها نتيجة حتمية، بشرط أن تكون الأسباب الغيبية المتوسل بها للشفاء واردة عن أهل البيت فهم من يعلمون مفاتح الغيب.
واليوم حيث ينتشر هذا الوباء المسمى بالكورونا تضاربت الأراء؛ بين من يقول لابد من العمل بالأسباب وترك الغيب وتسفيه من يقول به وبين من يقول العكس، بينما الأمر كما رأينا من سيرة أهل البيت ليس فيه تضاربا بل التسليم حسب ما يقتضيه أمر الله أكان عملا بالأسباب أو بالغيب، وذلك حسب علمهم بما تقتضيه إرادته سبحانه فهم كما ورد في الزيارة الجامعة (العاملون بإرادته)، وإرادته هو أمره.
أما عن تكليفنا فبحسب ما نعلم من أسباب المرض في التجمعات أياً كانت دينية أو غيرها لابد من التقليل منها، وعند الضرورة لابد من أخذ الحذر والحيطة، وفي ذات الوقت لا نغفل عن دور الغيب في الحفظ؛ من صدقة أو حرز أو دعاء ورد عن أهل البيت؛ فلقد ورد عن رسول الله: «يا علي : الصدقة ترد القضاء الذي قد أبرم إبراما.»(٢)، وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): «عليكم بالدعاء، فإن الدعاء لله، والطلب إلى الله يرد البلاء وقد قدر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي الله عز وجل وسئل صرف البلاء صرفه»(٣).