القناعة المنطقيّة والاستئناس النّفسي
في البحوث العلميّة، يحتاج الباحث أن يتمتع بلياقة فكريّة كافية، يستطيع معها فرز العوامل النّفسيّة عن القضايا والملازمات الذهنيّة.
يحدث في نقاش علمي يُثبت أحد الطرفين نتجية ما، إلا أنّ الطرف الآخر لا يجد في نفسه التقبّل، ولا يستطيع التسليم بالنّتيجة نفسيّاً، ومن ثمّ يتوهّم بأنّه لم يقتنع، والحال هو لا يشتكي من عدم الاقتناع بل من عدم "الاستئناس النّفسي" بالنّتيجة، وهو أمر يحدث كثيراً وله عوامل عديدة -كالغرابة، أو مخالفة ارتكازات سابقة وحسّاسة.. وغير ذلك-، ولا علاقة له بالقناعة العقليّة، والعكس كذلك عند التشبّث بالنتائج المستأنس بها مسبقاً، فهذا الشّخص يُصدّق ويقتنع بالأدلة الرّكيكة التي تناغي استئناسه، فالبعض يخلط بين عواطفه وتفكيره من حيث لا يشعر.
والأمثلة عديدة في العلوم النّظريّة، كالنتائج الفلسفيّة التي تتوقف على مقدّمات عقليّة طويلة، أو النّظريّات الفيزيائيّة التي ترتكز على معادلات رياضيّة مطوّلة، من قبيل: أن يستمع أحدهم إلى نتائج النّظريّة النّسبيّة لآينشتاين، وكون حقيقة الزّمان شخصيّ، ولكلّ موجود زمانه الخاص، أو أنّ الزّمن يتوقف عند سرعة الضّوء، والزّمان في حدّ نفسه له قابليّة التقهقر والعودة إلى الخلف.. وغير ذلك، فلأنّ النتائج غريبة يتوهّم الشّخص بعدم الاقتناع، والحال قد يكون مجرّد عدم استئناس، فالقناعة العقليّة والاستئناس النّفسي، شعور متشابه في الوجدان، يحتاج الإنسان التمييز بينها ليكتشف نفسه أكثر، وإلا قد تخدعه نفسه.
أمّا كيف يمكن التمييز والفرز بينهما؟.. فذلك من خلال مراعاة المقدّمات المنطقيّة، والمعطيات العلميّة، التي تُوصل للنتيجة، والتركيز عليها، وتجاهل أيّ مشاعر مضادة.
مسألة "الاستئناس" في غاية الأهميّة على الصّعيد العملي، وهي تحصل بالمداومة والتعاطي المستمر مع الفكرة -سواء كانت صحيحة أو خاطئة-، فالأمر يرتبط بالعوامل النّفسيّة بالدّرجة الأولى.
مشاعر الاستئناس بالمفاهيم حالة ايجابيّة طالما جاءت متأخرة بعد القناعة، ولكنّها تصبح سلبيّة إذا تقدّمت عليها وجاءت قبل القناعة؛ لأنّها تؤثّر سلباً على الموضوعيّة.