الملّا صدرا والاختيار الأصعب
لا يتم تحقيق الذات إلا بسلسلة طويلة من المكابدات ، وتخطي الكثير من العقبات ، وهذا ما نلاحظه عندما نقرأ سير العلماء . إن الحياة كما يراها سقراط رحلة لصنع الذات مقترحا على الإنسان أن يكون أنموذجا يصعب تقليده ، وفي قبالة هذا يقول أبو العلاء المعري بنظرته الفاحصة : " تعب كلها الحياة".
واجه محمد إبراهيم القوامي ، المعروف بالملا صدرا أو صدر المتألهين بعدما بلغ مرحلة متقدمة من النضج المعرفي ظروفا صعبة في حياته ، تشكلت بصيغة ( إمّا وإمّا ) التخييرية، فقد اشترط عليه الشاه عباس الصفوي إما أن يبقى في أصفهان بصمت دون أن يُدّرس في الحوزة العلمية ، وإما أن يهاجر منها بحيث لا يذهب إلى مسقط رأسه شيراز ، فاختار التشرد طريقا له فسار مع عائلته وسكن في قرى نائية متمسكا برأيه ومدافعا عن أفكاره ؛ كل ذلك من أجل العلم.
العلم الذي شغف به في مقتبل شبابه ابتداء من تلك الأسئلة الأولى التي دارت في ذهنه عن الوجود إلى انتظامه طالبا في الدرس الحوزي ، لقد كان تأثره بابن عربي مثار إشكال في البيئة التي يعيش فيها ؛ مما سبب له الكثير من المتاعب. لكنه واصل دروسه عند أستاذته المقربين : البهائي والمير داماد والفردنسكي ، إلى أن استطاع أن يجمع الفلسفة والعرفان في مشروع حياته الأهم ( الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ).
عن سوء الفهم الذي طارده في حياته وتهمة الإلحاد التي ألصقت به صرّح الملا صدرا في مقدمة كتابه بمصدر المعاناة التي عاشها : " وقد ابتلينا بجماعة غاربي الفهم تعمش عيونهم عن أنوار الحكمة وأسرارها ، تكل بصائرهم كأبصار الخفافيش عن أضواء المعرفة وآثارها ، يرون التعمق في الأمور الربانية والتدبر في الآيات السبحانية بدعة، ومخالفة أوضاع جماهير الخلق من الهمج الرعاع ضلالة وخدعة.. ".
تكاثرت أعداؤه من كل جانب من ساسة ورجال دين ومنكرين ومكفرين حتى الحمقى والتافهين إلا أنه صبر وفي العين قذى وفي الحلق شجى كما عبّر اقتداء بأمير المؤمنين الإمام علي. ، ولأن لديه وعيا شديدا بذاته وعلمه الذي تحصل عليه بطول المجاهدات ذكر ان معرفة الله ليست كما يتلقفها العامي وراثة وتلقفا. وهذا هو سر هذه الشخصية الاستثنائية التي عبرت غمار التجربة.
اشتغل صدر الدين الشيرازي في مساحة كبيرة من الفكر فكان نابغة عصره ، وقد أوضح المناهل التي أخذ منها في تجربته المعرفية المكونة من المدرسة الفلسفية المشائية والمدرسة الفلسفية الإشراقية ، لكن عدم استيعاب أفكاره جعله يحلق خارج السرب ، ففضل العزلة بالرغم من حسه الاجتماعي الرفيع. غير أن هذه العزلة كانت مثمرة جدا فقد تفرغ للتأليف وأنتج العديد من الكتب مثل : الأسفار الاربعة ، إكسيىر العارفين ، الواردات القلبية ، شرح أصول الكافي، وعشرات الرسائل ، إضافة إلى شرح القرآن الكريم.
إذا كان ( سقراط ) اختار السمَّ ، فإنَّ ( الملا صدرا ) اختار العلم وضحّى من أجله ، وقطع مسافات شاسعة في الصحراء دون أن يجد قطرة ماء لأطفاله ، كل هذا من أجل ( الحركة الجوهرية ) التي تسمو بالإنسان.