| 7 |
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
جاء هذا المقطع من الآية مباشرة بعد قوله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) ليكشف لنا عن وجود مانع نفسي قد يحول دون وقوع الصلح بين الزوجين، أو بين أي طرفين رغم الخير الذي فيه. هذا المانع يتمثل في الشح الذي هو بخل مع حرص، كما شرحه الراغب في مفرداته.
ويكون الشح حين يصرّ كل طرف من الأطراف على عدم تقديم أي تنازل عن بعض ما يراه حقا له لتسهيل الوصول إلى مرحلة الصلح، وبالتالي تتعقد العلاقة، وتصل إلى طريق مسدود.
فهل النفوس مجبولة على ذلك، أي على الشح؟
هذا ما استفاده المفسرون حين تعرضوا لشرح هذا المقطع من الآية الكريمة. يقول صاحب تفسير الكشاف: ومعنى إحضار الأنفس الشح أن الشح جُعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه، يعني أنها مطبوعة عليه.
وقال صاحب تفسير أضواء البيان: أي جُعل شيئا حاضرا لها كأنه ملازم لها لا يفارقها، لأنها جبلت عليه.
وقال صاحب تفسير مواهب الرحمن موضحا هذا المعنى، ومبينا الحكمة من وراء ذلك: "وتبين الآية المباركة أن الشح والبخل غريزة من الغرائز النفسانية لا يخلو منها إنسان؛ لأنّ به يحفظ منافعه ويصون نفسه من الضياع، فإذا أطلقت هذه الغريزة وخرجت عن صون العقل والحكمة صارت رذيلة مهلكة، وإن هذبت صارت سببا للضبط على المعتقدات والإرادة، أو تكون سببا لحصن النفس في الوقوع في منزلق الرذائل وسفاسف الأمور، بل قد يصير موجبا لحفظ الأموال من التبذير والإسراف، فالإفراط في هذه الغريزة مذموم كالتفريط، قال تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، فالشح موجود في كل نفس، ولكن الإنسان عرضة له، وهو يحضر عند ظهور المقتضي له إلا إذا ملك زمام هذه الغريزة بما يريده اللخ تعالى لها من الصلاح والسعادة".
وقد تحدثت آية أخرى عن هذه الغريزة، وذلك في قوله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً). فالإنسان بطبعه، إلا من رحم ربي، يميل إلى الإمساك وعدم البذل والعطاء. لذا فإن تهذيب هذه الغريزة وتشذيبها يحتاج لتدخل رباني، ليكون الإنسان حينئذ من المفلحين. وهو ما أكد عليه القرآن في قوله تعالى في آيتين: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). فقد أضيف الشح إلى النفس باعتباره منها، وجُعلت الوقاية من شروره بحاجة إلى تدخل خارجي، حيث بُني الفعل (يُوقَ) للمجهول، ولم يقل تعالى: ومن يَقِ نفسَه شُحّها.
من هنا فإن قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) يمثل دعوة عظيمة للصلح وذلك من خلال التالي:
أولا: رفع الحرج عن تقديم التنازلات بين الزوجين، وأنه لا ينبغي التحرج من ذلك حفظا لميثاق الزوجية، وإسهاما في إصلاح العلاقة الأسرية: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً).
ثانيا: بيان القاعدة الاجتماعية الهامة التي يؤسَّس عليها الصلح: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ). لما في ذلك من ترغيب في الصلح نفسه.
ثالثا: بيان العقبة الكبرى التي تحول دون تحقيق الصلح، للعمل على تجاوزها: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ).
رابعا: الدعوة إلى ممارسة الإحسان والتقوى، فبالإحسان تُملك القلوب، وبالتقوى تُحفظ المواثيق والاتفاقات والحدود: (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).