(9)
اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ
ورد هذا القول مرتين في القرآن الكريم: الأولى في سورة يوسف على لسان نبي الله يعقوب مخاطبا بنيه في قوله تعالى: (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ). والثانية في سورة القصص على لسان نبي الله موسى مخاطبا شيخ مدين حين أراد هذا الشيخ الذي قيل إنه نبي الله شعيب تزويجه إحدى ابنتيه، واتفقا على المهر: (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).
في كلتا الحالتين كان هناك اتفاق واضح مبرم؛ الأول كان (مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) وهو العهد واليمين المتضمّن لاسم اللّه سبحانه وتعالى بأن يعودوا من رحلتهم مع أخيهم بنيامين الذي طلبوا إرساله معهم، إلا إذا أحاطت بهم ظروف لم تكن في الحسبان وحالت بينهم وبين تنفيذ ما تعهدوا به. وفي هذا درس للتوثيق الدقيق في العقود المبرمة بحيث تأخذ حالات الاستثناء بعين الاعتبار.
أما الثاني فكان اتفاقا وعقدا طرفه الأول شيخ مدين وكيلا عن ابنته، وطرفه الثاني موسى على أن يُزوج الأول ابنته للثاني على مهر هو عبارة عن خدمة يقوم بها للطرف الأول لمدة ثماني سنوات أو عشر إن أراد التمام، وذلك متروك له: (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ).
كل التفاصيل كانت واضحة في كلا الاتفاقين، وهذا يرشدنا إلى أهمية الاهتمام بالتفاصيل جميعها عند إبرام الاتفاقات، لا أن تُهمل، ثم تحضر عند حدوث أي خلاف، فتؤدي إلى ما لا يُحمد عقباه. كما أن موسى كان واضحا في تحديد التزامه، وإبقاء الخيار لنفسه، إذ قال: (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ).
هذان الاتفاقان الواضحان خُتما بعبارة هامة جدا ينبغي أن تحضر عند كل اتفاق، وهي قوله تعالى: (اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ). فماذا تعني؟.
إن الهدف من هذه العبارة العظيمة المختصرة هو إحكام العقد المبرم بين الطرفين أشد استحكام، لأن معناها كما يقول صاحب الميزان: "توكيل له تعالى فيما يُشارطان، يتضمن إشهاده تعالى على ما يقولان وإرجاع الحكم والقضاء بينهما إليه لو اختلفا، ولذا اختار التوكيل على الإشهاد لأن الشهادة والقضاء كليهما إليه تعالى".
هذه العبارة عندما تصدر من نفوس مؤمنة بالله تعالى وشهادته وحضوره الدائم، تكون الإطار المحكم الذي يحمي الاتفاق من المخالفة وعدم الالتزام ببنوده. ومن هنا أصرّ كبير بني يعقوب على الالتزام بالعهد الذي قطعه وإخوته مع أبيهم، رغم يأسهم من خلاص أخيهم بنيامين وعودته معهم إلى يعقوب . يقول تعالى: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). هكذا أصرّ على البقاء في أرض منتظرا الإذن من أبيه أو حكم الله تعالى له بما يشاء.
ومن هنا أيضا التزم موسى باتفاقه مع شيخ مدين حدّ التمام، فقضى أبعد الأجلين.
ما أعظم حاجتنا لاستحضار هذه العبارة استحضارا فاعلا مؤثرا فيما نعقده من اتفاقات أو التزامات أو عقود، فلا نحتاج بعدها إلى الدخول في معارك الخلافات وتحقيق الانتصارات على الطرف الآخر بأي ثمن، دون مراعاة لشهادة الله، وهو خير الشاهدين، وأحكم الحاكمين.