(18)
احذر من هذا الحب
يقول تعالى في سورة النور: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
تأتي هذه الآية بعد الآيات التي بينت حد الزنى وحد القذف واللعان، وبعد آيات حديث الإفك الذي كان نتيجة إشاعة سرت في المجتمع، وتلقتها الألسن، بحسب التعبير القرآني، دون تبصر وتثبت، فألقتها ووجدت لها آذانا قبلتها دون فحصها وغربلتها، فأحدثت اختلالا واضطرابا اجتماعيا تدخل القرآن لحسمه وبيان ما كان ينبغي تجاهه: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ . وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).
كما تحدثت بعض الآيات بعدها عن رمي المحصنات الغافلات المؤمنات، وعن غضّ الأبصار وحفظ الفروج وأحكام النظر وتزويج الأيامى والاستئذان وغير ذلك؛ من أجل إيجاد مجتمع حصين يسوده العفاف وقيم السلام الاجتماعي.
هذا هو الجو المحيط بالآية التي نحن بصددها: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). ولنا فيها ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى: إن الآية تحدثت عن استحقاق أولئك الذين (يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) للعذاب الأليم الدنيوي والأخروي. وتستوقفنا هنا كلمة: (يُحِبُّونَ) إذ لم يقل: يُشِيعون. لأن الحبّ لمثل ذلك ينطوي على نفس مريضة لا تريد انتشار الخير والفضيلة في مجتمعها، بل تودّ إشاعة السوء والرذيلة فيه. وهذا الحب لا بدّ أن يكون مقدمة وتهيئة لما بعده. ففي الآية تحذير لمن يقومون بإشاعة الفاحشة بالفعل، لأنهم أسوء حالا كما هو واضح.
الوقفة الثانية: الفاحشة كما قال الراغب في مفرداته: "ما عظُم قبحُه من الأفعال والأقوال". فلا تقتصر على فعل الزنى أو القذف مثلا. وهذا ما دلت عليه الروايات أيضا. ففي الرواية عن الإمام الصادق : أنه قال: مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا رَأَتْه عَيْنَاه وسَمِعَتْه أُذُنَاه فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). وفي رواية محمد بن الفضيل عن الإمام الكاظم : قَالَ قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ. الرَّجُلُ مِنْ إِخْوَانِي يَبْلُغُنِي عَنْه الشَّيْءُ الَّذِي أَكْرَهُه، فَأَسْأَلُه عَنْ ذَلِكَ فَيُنْكِرُ ذَلِكَ وقَدْ أَخْبَرَنِي عَنْه قَوْمٌ ثِقَاتٌ. فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ كَذِّبْ سَمْعَكَ وبَصَرَكَ عَنْ أَخِيكَ. فَإِنْ شَهِدَ عِنْدَكَ خَمْسُونَ قَسّامَةً، وقَالَ لَكَ قَوْلاً فَصَدِّقْه وكَذِّبْهُمْ. لَا تُذِيعَنَّ عَلَيْه شَيْئاً تَشِينُه بِه وتَهْدِمُ بِه مُرُوءَتَه، فَتَكُونَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّه فِي كِتَابِه : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
الوقفة الثالثة: في الآية دلالة على أن الميل إلى القبيح والتعلق به، وهو هنا إشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن، له آثاره السلبية الخطيرة. لذا فإن على المسلم أن يكون على يقظة دائما، مراقبا ميولاته وتعلقاته حتى لا يقع في المحذور. فالله تعالى يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فكما أن لإرادة الخير والصلاح دورا عظيما في كسب الآخرة، كذلك لحب إشاعة الفاحشة دورا خطيرا في خسران الدنيا والآخرة معا.
فلنحرص دائما على إبعاد مجتمعنا عن كل ما يكدر صفوه من إشاعات باطلة واتهامات كاذبة، وأن نسعى لجعله مجتمع الفضيلة والطهر والعفاف.