(20)
مغالطات داحضة
يعمد الإنسان أحيانا إلى استخدام مغالطة من المغالطات لتبرير ما هو عليه من خطأ، ظنّا منه بأنه يخدع بها الآخرين، في حين أنه لا يخدع إلا نفسه، شعر بذلك أو لم يشعر.
ولنتأمل نموذجين من النماذج التي ذكرها القرآن الكريم لنأخذ منها العظة والعبرة في حياتنا العملية:
النموذج الأول:
يقول تعالى في سورة الأنعام: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ)
ويقول في سورة النحل: (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)
ويقول في سورة الزخرف: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)
في هذه الآيات الثلاث استخدم المشركون مغالطة قد تنطلي على البعض، إذ يقولون: (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا). وفي قولهم هذا خلط بين الإرادة التكوينية لله تعالى والإرادة التشريعية. إذ لو كانت هناك إرادة تكوينية لما تخلف مرادها عنها أبدا، كما قال تعالى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) وقال: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وقال: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ). ولكن الأمر ليس كذلك، إذ أراد الله منهم بالإرادة التشريعية أن يعبدوه وحده لا شريك له، فهم مختارون في ذلك، ومحاسبون على اختيارهم، فالإرادة التشريعية لا يستحيل تخلف المراد عنها كما هو واضح جلي، إذ يمكن للإنسان أن يطيع كما يمكنه أن يعصي ربه. يقول تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ويقول: (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).
النموذج الثاني:
يقول تعالى في سورة يس: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
في هذه الآية هؤلاء يطرح هؤلاء مغالطة أخرى لتبرير امتناعهم عن الإنفاق على غيرهم من ذوي الفاقة والحاجة. فلو يشاء الله –بحسب مغالطتهم– إطعام المحتاجين لما تخلف مراده عن إرادته، ولأطعمهم كما أطعمنا، ولكنه لم يشأ ذلك، فنحن غير مسؤولين عن إطعامهم.
وهنا وقع الخلط كما في النموذج الأول أيضا. فإرادة الله التشريعية هي التي تم إعمالها هنا ليختبر الله عباده ويمتحنهم فيما آتاهم، فقال: (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) وقال: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) وقال: (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). فالمال مال الله، وهو الرزاق: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، وقد فرض على الميسورين في أموالهم حقوقا كي لا تنحصر الثروات في أيديهم فقط (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)، كل هذا بإرادته التشريعية التي يلتزم بمرادها الحامدون الشاكرون.
إن على كل واحد منا أن ينتبه لورود مثل هذه المغالطات في ذهنه، والتي توقعه في شباك إبليس من حيث لا يشعر الذي قال مغالطا: (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).