(24)
الإحسان أربح بضاعة
لو لم يكن لدينا نحن المسلمين غير هذه الآية الشريفة، وهي قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) لشكّلت وحدها أعظم دافع لنا للرقي وقيادة العالم كله نحو التنافس في إنتاج الأحسن في جميع الحالات.
فقد ركز القرآن الكريم في آياته على هذه المفردة العظيمة (أَحْسَنُ) وما شاكلها أيما تركيز، من أجل ترسيخها في الأذهان، ولتكون منهاجا نسير على هديه في حياتنا سعيا إلى التخلق بأخلاق الله تعالى، لنكون كما أرادنا سبحانه.
فهو كما قال عن نفسه: (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها). فالحسنى مؤنث الأحسن اسم تفضيل، أي إنه المتصف بالحسن المطلق في ذاته. يقول صاحب تفسير الميزان: "وقد دل العقل والنقل أن كل صفة كمالية فهي له تعالى وهو المفيض لها على غيره من غير مثال سابق فهو تعالى عالم قادر حي لكن لا كعلمنا وقدرتنا وحياتنا بل بما يليق بساحة قدسه من حقيقة هذه المعاني الكمالية مجردة عن النقائص" ثم يضيف حول هذه الآية: " وقد قدم الخبر في قوله: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» وهو يفيد الحصر، وجيء بالأسماء محلى باللام، والجمع المحلى باللام يفيد العموم، ومقتضى ذلك أن كل اسم أحسن في الوجود فهو لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد، وإذ كان الله سبحانه ينسب بعض هذه المعاني إلى غيره ويسميه به كالعلم والحياة والخلق والرحمة فالمراد بكونها لله كون حقيقتها له وحده لا شريك له".
ولأنه كذلك فلا يصدر منه إلا ما هو أحسن. يقول تعالى: (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ويقول: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ويقول عن خلق الإنسان خاصة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ويقول عن أحكامه: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ويقول عن وحيه: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ويقول: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ويقول: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ويقول عن دينه: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً).
ولما كان هدف الخلقة (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فقد دعانا إلى الإحسان في كل شأن من شؤوننا، فقال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)، وحبّب ذلك إلى نفوسنا، ورغبنا فيه أيّ ترغيب، ببيان آثاره العظيمة المتمثلة في حبه للمحسنين، وكونه معهم معية خاصة: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، وقرب رحمته منهم: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وأنه لا يضيع أجرهم (إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، ويجزيهم على إحسانهم أحسن الجزاء: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) إلى غير ذلك.
كما ذكر لنا نماذج من عباده المحسنين لنتأسى بمواقفهم وسيرتهم، فقال: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وقال: (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ . إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وقال: (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وقال: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً).
لقد كان الإحسان باديا بوضوح لكل أحد عاشر نبي الله يوسف . ففي السجن قال له صاحباه: (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وكذلك إخوته: (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
فليكن الإحسان دأبنا دائما كي نصير كما أراد الله: (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). فعن الإمام علي : لو رأيتم الإحسان شخصا لرأيتموه شكلا جميلا يفوق العالمين. وعنه أيضا: عليك بالإحسان، فإنه أفضل زراعة، وأربح بضاعة.