الجزءُ السَّادِسُ مِنْ سِلْسِلَةِ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ
حديث الجمعة 12 جمادى الأولى 1446هـ .
التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ بَيْنَ العَامِ والخَاصِ ( 4 )
قَالَ تَعَالَى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) آية 122 سورة التّوبة.
حَدَيْثُنَا لِهَذِهِ الْجُمُعَةِ الْمُبَارَكَةِ هُوَ فِي بَيَانِ الْمُسْتَوَى الثَّانِي أَوْ النَّوْعِ الثَّانِي المَطْلُوبِ مِنَّا جَمِيعًا فِي التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَهُوَ: ( تَعَلُّمُ الْمَسَائِلِ وَالأَحْكَامِ الَّتِي نَبْتَلِي بِهَا أَوْ نَحْتَاجُهَا غَالِبًا ).
وقبلَ توضيحِ هذه المسألة العامة لا بُدَّ لنا أَنْ نَعْرِفَ ونَفْهَمَ أَنَّ المسائلَ الفقهيةَ كثيرةٌ جدًا وواسعةٌ جدًا وهي كالبحرِ العميقِ الذي لا يمكنُ لنا أَنْ نخوضَ عُبَابَه.
مِنْ جِهَةٍ لا نَقْدِرُ ومِنْ جِهَةٍ لا نَحْتَاجُ .
لن نَقْدِرَ عَلَى الإِحاطة بها لكثرتها وتشعبها، ولن نحتاج إليها لأننا لا نحتاج إلّا ما يَخُصُّنَا فقط وما يَقَعُ فِي دائرةِ ابتلائِنا .
اسمعوا هذه الرّوايةَ التي تتحدثُ عن الأحكامِ الشّرعيةِ الفقهيةِ المُتعَلِّقَةِ ببابٍ واحدٍ فقط وهو بابُ الحجِّ :
في كتاب ( من لا يحضره الفقيه ) ينقل الشّيخ الصّدوق عليه الرّحمة هذه الرّواية في باب (نوادر الحجِّ) في الجزء 2 ( ص ٥١٩) أو (٢1٩) بحسب النّسخ.
رُوِيَ عن بُكَيْر بن أَعْيَن ، عَنْ أَخِيهِ زُرَارَة، قَالَ : قلتُ لأبي عبدالله عليه السلام : ( جعلني اللهُ فداك، أسألُكَ في الحجِّ أربعين عامًا فتفتيني، فقال: يَا زُرَارَة : بيتٌ يحجُّ قبلَ آدم عليه السّلام بألفي عام ، تريدُ أَنْ تفنى مسائله في أربعين عامًا ).
فهذا بابٌ واحدٌ من أبواب الفقه فكيف ببقية الأبواب في العبادات والمعاملات.
ما هي المسائلُ التي يبتلي بها المكلفُ غالبًا ؟
نَحْنُ جَمِيعًا نَقَعُ فِي دَائِرَةِ الاِبْتِلَاءِ وَالْحَاجَةِ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِي فِي نِطَاقَيْنِ أَوْ مَجَالَيْنِ وَهُمَا : الْعِبَادَاتُ وَالْمُعَامَلَاتُ .
ولذلك جرتِ العادةُ عند الفقهاءِ الكرامِ رحم اللهُ مَنْ مَضَى وحفظ مَنْ بقى على تقسيم الرّسالة العملية التي تضمّ أحكام الفقيه المرجع لمقلديه إلى جُزْأَين : الجزءِ الأوَّل للعبادات، والجزءِ الثّاني للعاملات.
فِي العباداتِ نحتاجُ جميعًا لأحكامِ الطّهارةِ والنّجاسةِ والصّلاةِ والوضوءِ والغُسلِ والصّومِ والحجِّ والخُمسِ والزّكاةِ، وكلُّ واحدٍ يحتاجُهَا بقدر حسب وضعه وحسب المعايير التي سأذكرها بعد قليل.
وأمَّا فِي المعاملاتِ فالاختلافُ في الابتلاء والحاجة أكثرُ تباينًا مما هو في العبادات وسأذكر ستةً من المعايير التي توضح كيف نكون رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا في دوائرَ مختلفةٍ من الابتلاء والحاجة للحكم الشّرعي والرّأي الفقهي.
المعايير السِّتَةُ هي :
1- العمر. 2- الجنس. 3- الوضع الاجتماعي. 4- المهنة. 5- الموقع الجغرافي. 6- الوضع الصّحي.
سأستعرضُ بعضَ المسائلِ التي تَخُصُّ كلَّ معيار على حدةٍ مع ملاحظة أني أوردُها فقط كشواهد على اختلاف الحاجة وليست كمسائل شرعية مع تفاصيلِها وأجوبتِها :
المعيار الأوّل : العمر :
تبدأُ الاختلافاتُ في الحاجة للحكم الشّرعي من انعقادِ النّطفةِ للجنين وتنقسمُ إلى ثلاثِ حالاتٍ، ولكلِّ حالةٍ أحكامُهَا: ( نطفة حلال، ونطفة حرام، ونطفة شبهة )، بل وما قبلها فالبعض منّا ممَّن لم يرزقِ الذّريةّ يحتاج لأحكام تلقيح البويضة، وأطفال الأنابيبِ، والأمِّ الحاملةِ، والأمِّ الحاضنةِ، والسائلِ المنوي للزوج أو لغيره، وأحكامِ كشفِ الطبيبِ الرّجلِ للمرأةِ أو كشفِ الطبيةِ المرأةِ للرّجلِ وهكذا هناك عشراتٌ بل مئاتٌ من المسائلِ التّفصيليةِ التي قد يحتاجُها البعضُ منَّا رجالًا ونساءً وقد لا يحتاجُها الكثيرُ منَّا فهي ليست من موارد ابتلائنا.
نسأل الله للجميع أنْ يرزقَهم الذّرية الصّالحة ويباركَ لهم في أولادِهم وبناتِهم وأحفادِهم وجميعِ أحبابِهم.
لاحظوا أنّ العمرَ وإنْ كان صغيرًا فهناك ابتلاءٌ وحاجة للحكم والمبتلي والمحتاج هو الكبير رجلًا كانَ أو امرأةً، والدًا كانَ أو وليًا أو وصيًا أو غير ذلك، وهذا يتضح أكثر في مسائلِ تربيةِ الأطفالِ ومنها :
أحكامُ النّفقةِ والرّضاعةِ والحضانةِ، وأحكامُ العورةِ والنّظرِ، وأحكامُ الطّفلِ المُمَيِّزِ وغيرِ المُمَيِّزِ في الصّلاةِ والحجِّ، وأحكامُ أكلِ الأطفالِ للحلويات وفيها الجيلاتينُ وغيرُه، وأحكامُ الألعابِ والدُّمَى والألعابِ الالكترونيةِ، وأحكامُ الضمانِ لما يتلفهُ الصغيرُ من ممتلكات الآخرين، وأحكامُ التّغسيلِ والتّكفينِ والدّفنِ والصّلاةِ على الأطفالِ والتي تختلف بحسب العمر أيضًا، وغيرُها من الأحكامِ التي قد تكون بالمئاتِ و تتوزع ابتلاءاتنا بها كُلٌّ بحسب حاجته ووضعه.
ومِنْ أحكامِ العمرِ أيضًا :
1- سِنُّ البلوغِ والتّكليفِ واختلافه بين الولد والبنت وما يتبعُ ذلك من حاجة للعشراتِ بل المئاتِ من المسائل المتعلقة بالغُسلِ والجنابةِ والحيضِ والحجابِ والصّلاةِ والوضوءِ والاختلاط .
وهنا تتوزع الأدوار بين الأبِ والأمِّ فيأخذُ الأبُ دورَ المعلمِ والمرشدِ لابنه الذّكر عند البلوغِ بل وما قبله، كما تأخذُ الأمُّ دورَ المعلمةِ والمرشدةِ لابنتها الأنثى عند البلوغِ بل وما قبلهِ .
2- سِنُّ الاستقلالِ عن الحاجة للولي أو الوصي وهَذَا له العشراتُ من التّفاصيل فِي أبوابٍ مختلفةٍ .
3- سِنُّ الشّيخوخةِ وما يتبعه من أحكامِ الصّلاةِ والوضوءِ والصّومِ والحجِّ والرّعايةِ والنّفقةِ وكذلك ما يختص بالقواعدِ من النّساء.
كُلُّ ما ذكرناه هو إشاراتٌ و شواهد فقط ولو صار الحديثُ مفصلًا لاحتاج إلى الكثير من الخطبِ المنطوقةِ أو النّصوصِ المكتوبةِ والأمرُ كما قلنا في المقدِّمةِ فإنّ الفقهَ بحرٌ واسعٌ ولايحتاجُ منه المكلفُ إلَّا بقدر ما يقع في دائرة حاجته وابتلائه.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلّى اللهُ على سيدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطّيّبينَ الطَّاهِرينَ