التديّن الشخصي في مواجهة تأثيرات العولمة
نشرت مجلة البصائر الفكرية التي تصدر عن مركز الدراسات والبحوث لحوزة القائم (عج) ، دراسة للسيد محمود الموسوي بعنوان (التديّن الشخصي في مواجهة تأثيرات العولمة) في عددها رقم 33 ، حيث يناقش فيها (مشكلة التلاعب بالأذواق) وتأثيراتها على ثقافة الإنسان وسلوكه.
تقديم
تعدّ تأثيرات العولمة من أوسع التأثيرات على الحضارات والثقافات والدول والمجتمعات ، من أي مؤثّر آخر ، فليس تيار العولمة الجارف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ، كالتحديات التي مرّت على بها دولنا ودول غيرنا ، كالإجتياحات العسكرية ، أو الإستعمار السياسي ، أو محاولات الإجتراح الثقافي عبر التيارات الفكرية المختلفة أو عبر حركة الإسشتراق أو محاولات التبشير المسيحي .. وليست كالضغوطات الإقتصادية التي تمارس في بعض الحالات على بعض الدول الإسلامية والعربية .. بل إن تأثيرات العولمة وهي (الإستعمار بثوبه الجديد) فاقت كل تلك التحديات التي مرّت على المسلمين في فترات متعاقبة ، حيث أن لها امتدادات متنوّعة في مختلف المجالات ، فقاعدتها اقتصادية تستحوذ على الخيرات وتوسع الهوّة بين طبقة الفقراء وطبقة الأغنياء ، وأهدافها هي الهيمنة السياسية ، ونتائجها انحرافات ثقافية وتغيرات اجتماعية واسعة ..
ولا شك أن الفرد باعتباره يعيش هذه الدائرة ، فهو مشمول بتلك التحديات التي قد تؤثّر عليه ، وتنقله من حال إلى حال ، وقد تتشكّل شخصيته من جديد وتصاغ وفقاً لشروط ومواصفات عوملية ..
السؤال : هل هذه التأثيرات هي في صالح الفرد بوصفه متديناً ؟
تحوّل الشخصية
إن مبدأ التغيّر بحد ذاته وفي نفسه ليس مرفوضاً ، بل على العكس ، فإن سنّة الله عزّ وجلّ جرت على أن يقوم الإنسان بتغيير نفسه ويحولها من حال إلى حال ، فقد ولد الإنسان ضعيفاً ، كما قال تعالى : (الله الذي خلقكم من ضعف)[1] وولد وهو لا يعي شيئاً ، حيث قال عز وجلّ : (والله أخرجكم من بطون إمهاتكم لا تعلمون شيئاً ، وجعل لكم السمعَ والأبصارَ و الأفئدةَ لعلّكم تشكرون)[2] وما هذا إلا ليقوم الإنسان وعبر ما أعطاه الله عز وجل من إمكانات (عقلية ، وفكرية ، وإرادية) لتغيير نفسه ، وتشكيل شخصيته ، وقد قال تعالى (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)[3].
فإن التغيير بحد ذاته مطلوب ، بل هو ما يجب أن يؤدّيه الإنسان الفرد ، ولكن المحذور هو (نوع التغيّر) وماهيته ، أي الجانب الذي يتصل بالمضمون ، فالتغيّر الذي أراده الله تعالى كما في القرآن الكريم هو التحوّل إلى الأفضل وإلى الصلاح ، كما في سورة العصر (والعصرِ ، إن الإنسانَ لفي خسرٍ . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ِ وتواصوا بالحقِ وتواصوا بالصبرِ) فمن يترك نفسه وحالها دون أي انجاز وتقدّم ،فهي تسير نحو الخسران ، فلا بد أن يضيف إليها العمل الصالح ، والتفاعل مع المجتمع في دائرة إيجابية وتكاملية.
التدين الشخصي ومضامين العولمة
إذاً ، المضمون هو المهم في عملية تأثير إرهاصات العولمة على الإنسان ، وقد عرفنا من خلال سورة العصر أن الإنسان الرابح هو الذي (يعمل صالحاً ، وهذا بعد فردي ، ومن يتواصى بالحق والصبر أي الذي يتفاعل مع المجتمع في اتجاه الخير) ، ولا شك أن أي حضارة لا تدّعي أنها تقوم بتدمير الإنسان أو أنها تبث مضامين الشر ، فهي تقول أيضاً أنها تبشّر للإنسان الصالح الذي يتفاعل مع مجتمعه بالصلاح ، وهكذا هي إدعاءات الثقافة الأمريكية .. إلا أن هذا الإدعاء لا يرقى لأن يكون حقيقياً ، وذلك لسببين :
الأول : إن واقع الحركة الأمريكية وواقع الثقافة الغربية بشكل عام ، لا يستطيع أن يصنع إنساناً صالحاً ومجتمعاً صالحاً ، لمشكلة أساسية في طبيعة هذه الثقافة القاصرة بذاتها، ولا نريد أن نستغرق في إثبات ذلك لأنه سيأخذ أبعاداً مختلفة لا مجال لها..
الثاني : وهو الأهم أننا أصحاب ديانة خاتمة وهي الإسلام ، والإسلام دين إلهي ، جاء بخطة متكاملة لصياغة الإنسان في أبعاده الشخصية والإجتماعية عبر بصائر الوحي وهدى أهل البيت عليهم السلام.
فأي عملية تسعى لأن تكون بديلاً عن تلك الوصفة الإلهية لصياغة الإنسان وتديّنه ، فهي مرفوضة ، وهو ما ينبغي أن نواجهه ونحبط حبائله ، لأنه يتناقض مع الشخصية الرسالية التي يرتضيها الله عز وجل.
ولا شك أن المضامين التي تتدفّق على الإنسان في بعده الشخصي ، ضمن التحديات الجديدة ، هي مضامين نفعية ، وشهوانية ، تسعى لتمييع الشباب وإلغاء كل المحذورات الشرعية من قاموسه ، وإحباط أي مسئولية رسالية يسعى لتحقيقها في واقعه ، ومن أجل دينه .. فهي بإختصار صياغة جديدة لإنسان غربي غير متديّن ، وهذه هي المشكلة الأساس.
أساليب التأثير على المستوى الشخصي
هنالك تداخل واقعي بين مختلف المناحي الحياتية ، فالسياسة تؤثر في الإجتماع ، والعكس ، والإقتصاد يؤثر في الثقافة والعكس ، والمجتمع يؤثر على الفرد ، والعكس صحيح .. لهذا التداخل والتشابك في عملية التأثير ، فإن المستوى الشخصي ، سيكون معرّضاً ومتأثراً بكل تلك القوى ، كل واحدة من جهتها وبمقدار ارتباطها بحياته وسولوكه ..
إلا أننا نركّز على الأساليب المباشرة ، والأسباب التي عملت على التأثير على التديّن ، وهي أساليب اتبعتها جهات ذات منافع دنيوية ، تؤكد على الربح المادي ، والاستعباد السياسي للأخرين .. ويمكن أن نحدد أكثر ونقول أن الخطط متعددة ، ولكن القاعدة واحدة.
القاعدة التي يدخل من خلالها أولئك وهي مصداق لحبائل الشيطان ، أنهم يغيّرون مؤشّر الحب والبغض ، والحسن والقبح ، من أجل الإستحواذ على الشباب ، عبر انجاذبهم نحو ما يحبون وما يرونه حسناً .. ويعتزلون ما كان خلاف ذلك لديهم .. وهي بتعبير آخر التحكّم في حركة الذوق الإنساني ليكون تابعاً لما يريدون ، ولو كان ذلك خلافاً لإرادة الله تعالى ..
فعندما تتغيّر المعايير التي يشكّل على أساسها الإنسان انتماءه ، فهو بالضرورة يتغيّر في اتجاهها ، وقد أجمع الكثير من العلماء والمفكرين على أن أهم خطط العولمة الغربية هي التلاعب بالأذواق ..
حيث يقومون بالتالي :
· لكي يحصل الرأسمالي على السوق في البلدان الإسلامية ، فإنه لابد أن يسعى للهيمنة السياسية لفتح الأسواق بأقل تكلفة ممكنة .
· و لكي يحصل الرأسمالي المتمثل بالشركات المتعددة الجنسيات على الربح في السوق الإسلامية فعليه أن يجد من يرغب في شراء سلعته .. (الطلب)
· ولا يحصل على أولئك إلا إذا قام بشتى الوسائل بتغيير أذواق الناس ، لكي تتطابع مع الذوق الإنسان الغربي ، ليلجأ الناس لشرائها والإقبال عليها..
· إذن عليه أن يستفيد من كل التقنيات المتوافرة ، والإعلام المنتشر لبلوغ ذلك الهدف..
هذا مثال تبسيطي ، ولكنه واقعي مائة بالمائة ، يطبّق بشكل منظّم ومدروس ، وبمسميات مختلفة في واقعنا وفي دولنا ..
إذاً المدخل هو الذوق ، وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم ، نراه قد أكّد على أن (الحب والكره ، والإعجاب وعدمه) ليسوا عناوين للحق والباطل ، ولا تدور مدار صلاح الإنسان وخيره .. فهي لا تعطي قاعدة تامّة ولا يمكن أن يعتمد الإنسان عليها في تأسيس حركته .. حيث يقول تعالى : (كُتب عليكمُ القتالُ وهو كُرهٌٌ لكم ، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تُحبِّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم واللهُ يعلمُ وأنتم لا تعلمون)[4]..
ويقول تعالى : ( قل لا يستوي الخبيثُ والطيّبُ ولو أعجبك كثرةُ الخبيثِ فاتّقوا الله يا أولي الألبابِ لعلّكم تُفلحون)[5] ، فالخبيث مفهوم لا يتغّير بتغيّر الشكل والمظهر أو بالكم والعدد ، ولا يتغيّر إذا سحر أعين الناس وأعجبهم حسنه الظاهري .. لذا فإن الله تعالى ينهى عن هذه الحالة في آية أخرى إذ يقول : (فلا تعجبك أموالُهم ولا أولادُهم ، إنما يريد الله ليعذّبَهم بها في الحياةِ الدنيا وتزهقَ أنفسُهم وهم كافرون)[6] ..
و من ذلك يؤسس ربنا عزّ وجل ، قاعدة المفاضلة على أساس الدين والإيمان ، لا على أساس الحب والإعجاب حيث يقول: (ولأمَةٌ مؤمنةُ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم) ، ويقول عز وجل في سياقها : (ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم ، أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنّة والمغفرة بإذنه ويبيّنُ آياتِهِ للناس لعلّهم يتذكّرون)[7] .. فالآية الكريمة تدعونا إلى الوصول إلى العمق لنبصر ماهية الثقافة المحركة لهذا المجتمع أو ذاك ، لكي لا تسوقنا مشاعرنا بما زيّنت لها بهرجة الحضارات إلى نكران الحقائق الكبرى وصدّ الهدى والابتعاد عن المنعم الذي أغدق علينا تلك النعم ووفقنا للوصول إليها ومعرفة مآلاتها.
وهنالك الكثير من الروايات التي تؤكّد ذات الحقيقة بوضوح تام ، لم نذكرها اختصاراً ..
فلماذا لا يكون الحب والإعجاب الظاهري هو المقياس ؟
قد أجابت الآيات السابقة بذلك وقالت :
1/ في قوله تعالى : (والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، حيث أن خالق الخلق أعلم بخلقه من غيره.
2/ في قوله تعالى : (أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنّة والمغفرة) ، أي أن طبيعة الثقافة المتناقضة مع الدين مصيرها هو الإنحدار والتقهقر ، ومصيرها هو النار ، هذا لمن يؤمن بالآخرة والمعاد.
والنتيجة المترشحة من اتباع إعجابهم الظاهري ، هي تخلّي الشباب المسلم عن تديّنه والتزامه بما يدعوه إليه الإسلام من أحكام متنوّعة تشمل كل الحياة ..
تمثّلات التحديات في الواقع اليوم
ما نجده من مظاهر تخلّي بعض الشباب عن حالة التديّن له أسباب عديدة كما ذكرنا ، وتتوزع تلك الأسباب بين الأسباب الداخلية التي ينتجها المجتمع نفسه أو يقوم بها الفرد ذاته كمحرّك وباعث من نفس المجتمع ، و بين أسباب خارجية ، تقوم بها جهات مختلفة لتحقيق مآربها الخاصّة ، ولأننا نتحدّث عن مؤثرات العولمة ، فإننا نحصر الحديث في الجانب الخارجي وما يقوم به من دور في تفكيك تديّن المسلم ، ونذكر هنا بعضاً من تمثلات تلك الأساليب لا على سبيل الحصر:
1/ الإعلام الشهواني.
لا يمكن أن نفرّق بين وسائل الإعلام العربية والغربية اليوم، كما يقوم به الباحثون عند دراستهم للظواهر الإجتماعية المختلفة ، كل على حدة ، بل أصبح الآن وبفعل الإنفتاح الفضائي كل شيء متاح إلى كل بيت ، فتقوم القنوات الغربية بالتأثير بشكل مباشر في المشاهد المسلم ، بما تبثه من مواد .. فضلاً عن أن القنوات العربية إنما هي تابع لمثيلاتها الغربية ومقلّدة لها في جانب ، ومستوردة لأكثر من 60% من موادها الأخرى من القنوات الغربية ..
فقد استخدم الإعلام إلى غير ما وضع له ، وهي الرسالة التي تبثّ المعلومة الصادقة ، والتوعية والرقي بالمجتمع .. فأصبحنا أمام إعلام مغاير، تتسابق فيه الفضائيات لمشاهد الإثارة ، والعنف ، واللهو ، ولا شك أن هذا يعمل على جذب الكثير من الشباب ، فيقومون بنفس الأعمال ، أو تحدد أدوارهم للّهث وراء سحر الشاشات وضياع الطاقات والأوقات ، مما يضظرّه للتخلّي عن الطاعات ، وارتكاب المعاصي..
2/ إشاعة النمط الغربي.
حيث تقوم الشركات الغربية الكبرى بخلق أجواء متطابقة مع النمط الغربي ، في المأكل والملبس والسلوك ، كما نشاهد انتشار محلات الماكدونالد وأخواتها .. لكي يحصل الشاب المسلم على ساحة يفرغ فيها السلوك الذي يكتسبه من الإعلام ..
3/ الموضة .
ظاهرة الموضة بصورتها الموجودة في مجتمعاتنا هي تجسيد لحالة اللهث وراء الإعجاب والمظاهر الأخاذة ولو على حساب الشرع والدين ، ومنها على سبيل المثال لبس المرأة وتحولاته ..
4/ الشباب والنساء
وتتحرك عملية تغيير الأذواق ، أو العمل على اتباعها بشكل مطلق ، في شكل التأكيد على فئات عمرية على أساس إستقلالها ، وهم فئة الشباب ، والمرأة ، فقد أشاع الإتجاه الغربي أن فئة الشباب يحتاجون إلى تجمعات شبابية مستقلة ، وكذلك النساء ، لكي يمارسون حياتهم ، وفقاً لمتطلبات فئاتهم..
وبالطبع فإن النظر للفئات العمرية على أن لها احتياجاتها الخاصة ، شيء موافق للحقيقة ، وقد أعطى الإسلام هذه الخاصية لكافة الفئات العمرية ، إلا أن التفكيك التام هو موطن المشكلة..
حيث أن مرحلة الشباب تحتاج إلى التوجيه والإرشاد ، والنساء يحتاجون إلى الدعم والمساعدة والإرشاد أيضاً .. فهذه عملية تفكيكية ، تسهّل دخول سياسة (الأذواق) إليها خصوصاً مع العلم بخصائص هذه الفئات الطبيعية.
5/ الأطفال رهان آخر.
فالإتجاه الغربي ، يسعى لجعل الطفل يرتبط برموز الثقافة الغربية ، ثم يكبر وتكبر معه هذه العادة ، وذلك عبر إغراق السوق بالسلع الغربية ، بعد أن يتم تسويقها إعلامياً ..
وما إلى ذلك من أساليب وتمثلات ..
معالجة مختصرة
للحفاظ على التديّن الشخصي من تحديات العولمة المتمثّل في التلاعب بأذواق الناس ، و جعلها مقياس القبول والرفض ، يمكن من خلال التالي :
1/ إشاعة ثقافة القرآن في استخدام الذوق ، والإعتماد على الانجذاب الظاهري في موضوعاته المخصصة ، والفصل بينها وبين ما هو من عمل العقل والإيمان.
2/ إيجاد وسائل التأثير الإعلامية واستخدام التقنيات الحديثة في إشاعة الفضائل ومكارم الأخلاق ، بتأسيس فضائيات متعددة ترقى للتحديات الموجودة.
3/ خلق أجواء دينية واجتماعية ملتزمة ، تفوق تلك التي تتربّع في بلادنا ، عبر الإستفادة من الشعائر الدينية المتنوّعة ..
4/ طرح المفاهيم الدينية ومكارم الأخلاق بأشكال محببة وجذّابة ، كما قال تعالى : (ولكنّ اللهَ حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم ، وكرّهَ إليكم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ)[8].