الإشكالية الثقافية والمرجعية القرآنية

في رواية يرويها المحدث المجلسي – رضوان الله عليه – في بحاره، في اسناده إلى جعفر بن محمد الصادق عن آبائه   قال رسول الله : " ياأيها الناس إنكم في زمان هدنة، وأنتم على ظهر سفر، والسير بكم سريع، فقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز لبعد المفاز "، فقام المقداد رضوان الله عليه فقال: يا رسول الله ما دار الهدنة ؟..

قال رسول الله : " دار بلاء وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل، وهو الفصل وليس بالهزل، وله التطرق لمرجعية القرآن بالنسبة إليه ".

لكي نتعرف على مرجعية القرآن الكريم لمشكلنا حقيقة المشكل الثقافي، لا بد من وضع فواصل تميز لنا نوع المشكل الثقافي الذي نعيشه، ولعلنا نصنفه إلى أنواع ثلاثة من جملة التصانيف.

  • النوع الأول

المشكل الذي ينبع من صميم الواقع الاجتماعي الذي نعيشه وننتمي إليه سواء كان واقعا إقليميا أو مذهبيا أو أمميا، والجامع في ذلك أن هذه المشاكل تنبع من صميم واقعنا وليست مفروضة علينا.

  • النوع الثاني

مأزق ثقافي تعيشه فئة أو نخبة أو طليعة من الناس، ليس بسبب أنه مأزق تعيشه الأمة أو المجتمع، بقدر ما هو مشكل تعرفت عليه هذه النخبة أو الفئة، من خلال احتكاكها بالواقع الثقافي العالمي، أو بواقع الكتاب أو الاعلام، فقد يصور لنا البعض قضايا ومآزقا ثقافية، ويفرضها على المجتمع بصورة عامة، ويطالبنا بإيجاد حلول لها، ويجعل القرآن مرجعا لها، بينما ليست المشكلة أساسا نابعة من صميم واقعنا الاجتماعي، بقدر ما هي خليقة تفكير هذا المثقف أو المحيط الذي يعيشه هذا المثقف.

  • النوع الثالث

الثقافة التي تصدرها إلينا وسائل الاعلام وتفرضها علينا، إذ لم تعد الطريقة التي يريد الآخر أن يصدر ثقافته وفكره ومآزقه محصورة بدائرة، ففي الأعوام أو العقود السابقة كان الآخر يربي مجموعة من المثقفين على مبانيه الثقافية، وعلى أساليبه وقناعاته، ثم يصدرهم إلى مجتمعاتنا ليبثوا مواقفا أو أفكارا وثقافات لا تمت لواقعنا بصلة، لكنها تمت لواقع الآخر، لكنه اليوم استغنى عن هذه الطريقة بطريقة الثقافة للجماهير، فاليوم في بيت كل واحد منا مصدر تثقيف شئنا أم أبينا، وصرنا نتعاطى مع المشاكل التي تطرح وتناقش في وسائل الاعلام، كأنها مشاكل وقضايا نابعة من صميم مجتمعنا، بينما لو فتشت في الساحة الاجتماعية العامة، لا تجد لهذه المشكلات أو القضايا أي أثر، فالطبقة الاجتماعية العامة لا تعتني شيئا من هذه المشاكل، إلا أنهم يرونها في القنوات الفضائية وفي المجلات والدوريات والاعلاميات، وبالتالي يظنون أنها مشكلة يعيشونها، وهي أشبه شيء بالترف الفكري.

وحين نقسم المشاكل إلى هذه الأقسام الثلاثة لا لكي نعالج قسما ونترك القسم الآخر، بل نحن بحاجة إلى فرزها لسببين مهمين، الأول يتمثل في التعرف على المشكل الأهم الذي يضغط علينا بإلحاح ونحتاج إلى معالجته، وهو المشكل الذي ينبع من صميم مجتمعنا، ويمت إلى واقع أرضنا، فإذا فرغنا عن معالجته وصار لدينا الوقت الكافي والفرصة لمعالجة بقية الأزمات فكان بها، أما أن ننشغل بمعالجة مشاكل وإشكاليات ثقافية تمت للواقع الآخر ولا تمت إلينا بصلة، فهو نوع من الترف، بل نوع من الانشغال الذي يريد الآخر أن يشغلنا به عن واقع مشاكلنا الثقافية.

والسبب الآخر أن طريقة العلاج من مشكل لأخر تختلف، فلا يمكنك أن تعالج كل الاشكاليات الثقافية باختلاف منابعها، وباختلاف أرضها بأسلوب واحد، أسلوب المعالجة للمشكل الثقافي الداخلي يختلف عن أسلوب المعالجة للمشكل الثقافي الذي تعيشه طائفة ما أو مذهب ما، والاسلوب الذي تعالج به المأزق الثقافي الذي تعيشه طائفة، يختلف عن الأسلوب الذي تعالج فيه مشكلا تعيش فيه الأمة.

  • الثقافة المنهزمة

ينبغي علينا أن نتذكر دائما أن الأمم حين تنتصر سياسيا تنتصر ثقافتها بالتبع، وتسود ثقافتها على الأمم، وحين تنهزم الأمة سياسيا تنقل هذه الهزيمة أيضا على واقعها الثقافي، وستعود ثقافتها منهزمة بالتبع منهزمة عند كل فرد من أفراد الأمة، لاحظوا حين تنهزم دولة ما، امة ما، دعوة ما، أول فعل يتصدى له القائمون على هذه الدعوة او الحركة او الدولة.. هو مراجعة بنيتهم الثقافية، علهم يجدون من خلال ثقافتهم ما يبرروا به هزيمتهم، وآخر ما يلجأ إليه هو معالجة السلوك لدى القائمين، لأن أفضل الطرق هو التعليق على شماعة الغير، هل نحن في زمن نعد كأمة، وبالتالي نحتاج حين نراجع ثقافتنا، تبين المراجعة التي تمليها علينا هزيمتنا السياسية، وبين المراجعة التي تمليها علينا مشاكلنا الواقعية، قد يتراجع إنسان عن فكرة أو ثقافة أو عقيدة تبناها لسنوات، لا لأن الفكرة تشكو من خلل، ولا لأن الثقافة تشكو من عقدة لكنها هزيمة صورت له أن العقدة في ثقافته، فراح يحاول التخلص منها، عله يستطيع أن يصل بثقافة أخرى مطورة إلى النصر السياسي.

لذا نحن بحاجة إلى استجلاء أثر الصراع مع الغرب في مشكلنا الثقافي، في نفس الوقت الذي ننفي فيه نظرية المؤامرة، حيث كثيرا ما يتهم الإسلاميون بأنهم يرفعون هذا الشعار دائما، فنحن لا نريد أن نرجع كل خطأ وكل اشكال إلى مؤامرة الغرب علينا، وأيضا حين ننفي نظرية المؤامرة لا نريد أن ننفيها بشكل قاطع ومطلق، بحيث نعتقد أن الغرب في صراعه السياسي مع هذه الأمة لا شأن له بثقافتها، ولا شأن له بفكرها، ولا شأن له بعقيدتها، وحين نحاول أن نراجع ثقافتنا ونعرضها على القرآن الكريم، علينا أن نستجلي ونستوضح أين أثر الصراع مع الغرب في مشكلنا الثقافي، بعبارة أوضح أين المواضع التي يريد الآخر أن يجعل علامة استفهام في ثقافتنا وفكرنا، لأنها قضايا تمس واقعه، أو أنها تشكل المحور الأساسي في ثقافتنا التي تتصارع مع الآخر.

  • المرجعية القرآنية

حين نريد الحديث عن مرجعية القرآن الكريم في عرض مشلكنا الثقافي عليه، فإن هذا الحديث يعتمد على بلورة مجموعة من النقاط..

أولا: ما أسميته بأرضية التعاطي مع القرآن الكريم، هل هي أرضية تنبع من أن هذا القرآن نص سماوي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؟ أم أنه نتاج ( وهذا تعبير بعض المثقفين العرب ) ثقافة أرضية

صاغها فكر بشري وبالتالي هذه النظرة تحدد لنا نمط العلاقة مع القرآن الكريم ؟ حين نتعاطى مع القرآن على أنه نص سماوي لا يقبل الرد ( ما كان لهم الخيرة ) منهج يعتمد على القبول المطلق لكل ما يستنبط من هذا القرآن، أم أنك تتعاطى مع هذا القرآن على أساس أنه ثقافة أرضية قابلة للتقويم، وبالتالي قابلة لأن يؤخذ منها شيء ويترك منها شيء ؟

ثانيا: هل أننا ننظر إلى القرآن الكريم ( وهو مأزق يثيره البعض أحيانا ) على أساس نظرية الخاتمية والهيمنة ؟ أم أننا ننظر إليه على أساس أنه نص نابع من ثقافة أرضية، أو من ثقافة سماوية لكنه مؤطر بزمان معين، وهو الزمان الذي بعث به خاتم الأنبياء محمد ؟

ما نقوله هنا ليس ترفا، بل مجموع من النظريات كتبت منها كتابات مثل نظرية أن القرآن الكريم نتاج ثقافة أرضية، أو أنه نتاج ثقافة سماوية لكنه نص مؤطر بتاريخ، وبالتالي لا ينبغي لنا أن نتعاطى معه على أساس الخاتمية، بينما لو راجعنا مراجعة بسيطة إلى الأحاديث نجد هذا التعبير، كما في الحديث عن الرضا ( هو حبل الله المتين وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة، المنجي من النار، لا يخلق من الأزمنة، ولا يغث على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، وحجة على كل انسان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه )

وفي نص آخر عن الصادق وقد سئل ما بال القرآن لا يزداد إلى النشر والدرس إلا غضاضة، قال: ( لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة ) هذه النصوص ومثلها، كثيرا ما تؤكد أن القرآن الكريم كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أي أنه نص سماوي، وتؤكد هيمتة القرآن وخاتمية الرسالة المحمدية، بمعنى أننا إذا أردنا الرجوع إلى القرآن الكريم فليكن رجوعا يؤمن بأن القرآن يقبل كأساس على أنه نص سماوي مهيمن أو لا يقبل.

ثالثا: هل نطالب النص القرآني بعلاج المشكل الثقافي بأقسامه المتعددة، أم أنه هناك مشكلا أنتجته ظروف لا تتصل بهيمنة القرآن وسيادته، ومن ثم لا يصح مطالبة القرآن بمعالجتها الجزئية ؟

بل المطلوب معالجة الظروف وإرجاع الهيمنة للتعاليم القرآنية، ثم يحل المشكل تلقائيا، فلا يخفى أن كثيرا من المجتمعات لا تسودها ثقافة القرآن، ولا يهيمن على سلوك أبنائها القرآن، خلقت في أوساطها مجموع من الاشكاليات الثقافية، ليس مطلوبا من القرآن أن يعالج كل جزئية من هذه الجزئيات، لأن هذه الجزئيات ما أفرزت نتيجة هيمنة القرآن، بل أفرزت نتيجة هيمنة ثقافة أخرى.

المطلوب هو معالجة الظرف ككل، لأنه ينبغي أن نبعد الثقافة الأخرى ونحكم القرآن ونجعل القرآن بعلاج كل جزئية.

رابعا: إن عميلة الرجوع إلى القرآن الكريم لكي تتم في مسارها الصحيح، ينبغي أن تكون ضمن المقاييس التالية:

1- النص القرآني كل لا يتجزأ ( والذين جعلوا القرآن عضين ) منهج يأخذ من القرآن ما يعجبه ويترك ما لا يعجبه، والقرآن لا يعالج مشكلا بنصف حل، إما أن نقبل بالقرآن ككل وإما فبعض القرآن لا يجدي في علاج المشكل من أساسه، فيجب النظر إلى القرآن على أساس أنه وحدة متكاملة ومنظومة متكاملة تعالج قضايا متكاملة.

2- توأمية الكتاب والسنة، فالكتاب والسنة توأمان، وهناك بعض الدعوات التي هي تكرار لمقولات في التاريخ، رفع شعارها حسبنا كتاب الله، وها هي تكرر اليوم على ألسنة بعض المثقفين، حين يطالبونا بالرجوع إلى القرآن كنص ظاهر، بعيدا عن كل تفسير للقرآن من السنة مطلقا، سواء كانت سنة النبي أو السنة التي خلفها في الأمة، أعني أهل البيت، إن الرجوع إلى القرآن الكريم تحت شعار حسبنا كتاب الله لا يصح إلا مع جعل السنة بشطريها.

3- معرفة أدوات الاستنباط أيضا ضرورة في عملية الرجوع، اللغة وآدابها، علوم القرآن، علوم الحديث، أدوات استنباط ينبغي على المراجع للقرآن الكريم أن تكون حاضرة عنده.

4- أن يتمتع المراجع للقرآن بروح إيمانية تسليمية، لأن القرآن فيه شفاء وفيه هدى، ولكن للمتقين، أما الظالمين فلا يزيدهم إلا خسارا، فالروح التي تراجع القرآن روح استيعابية، روح مسلمة للقرآن.

 

عالم دين ( السعودية ) ومؤسس شبكة مزن الثقافية