جوانب من شخصية الزهراء عليها السلام
الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها".
والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله الخاتم لما سبق الفاتح لما أنغلق والمعلن الحق بالحق والدافع جيشات الأباطيل والدَّامغ صولات الأضاليل وعلى آله الغر الميامين .
السلام على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها . السلام على السر المأمون والمستودع المكنون ورحمة الله وبركاته .
حينما يكون الحديث عن فاطمة فإن ذلك يعني الحديث عن القطب الذي تتمحور حوله النبوة والإمامة ، وهذا يعني أننا متى ما استطعنا أن نفهم النبوة والإمامة استطعنا أن نفهم الزهراء .
أننا نؤمن بذلك لإعتقادنا بأنها سرُّ من أسرار الله أستطاع أن يختزل النبوة والإمامة ويجمعهما برابطٍ أبدي لا إنفكاك له أو إنفصام وإذا كان من أوثق عرى الإيمان أن يغضب العبد لله ويرضى لله فما هو من كان الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها ، وماذا تعني هذه التبعية لرضا الرب حيث يقول الرسول ( يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ) إنها مرتبة الرضوان الأكبر من الذي لا يتحقق إلا من خلال مطابقة الأفعال والأقوال والمواقف لإرادة ورضا الرب جل جلاله ، ولما كانت الزهراء كذلك تعلق رضا الله برضاها وغضبه بغضبها .
وهذه التبعية المنقلبة في الرضا تكشف جوانب متعددة وأبعاداً كثيرة في شخصية الزهراء ، أبرزها العصمة ( بما تحوي العلم والفهم والطاعة ولزوم الإتباع ) ولعلها العنوان الجامع أو المشترك لهذه الشخصية التي لا نزال تحتاج منا إلى اقتراب أكثر وتعرف أوسع وحيث جاء في الأثر ( إنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا على معرفتاها ) فأن المقصود عن معرفتها الحقيقية حيث إنها مثلت وما تزال تمثل طهارة الروح والجسد فهي الحوراء الأنسية التي تكونت نطفتها من ثمار الجنة التي تسقي أشجارها من نهر الكوثر ، فكانت كوثراً من كوثر ونقاءً من نقاء وطهر من طهر .
ومما يحز في النفس أن هذا المثال الذي يحوي أسرار الطهارة والنقاء عوضاً من أن يكون محلاً للكشف والتعرف والإقتداء أصبح مثاراً للطعن والتشكيك تارة والإهمال والنسيان تارة أخرى .
ولعل طغيان المادة والمنهج الحسي جعل البعض ينكر الجوانب الغيبية لحياة الزهراء عليها السلام مع أن هذا الإنكار يبتعد عن العلمية حيث تظافرت الأخبار من الفريقين أن فاطمة حوراء إنسية تشكلت نطفتها من ثمار الجنة ، فلو تماشينا مع ما يقال بالحس والمادة فإن من المعلوم أن للغذاء أثرٌ في التكوين وأثرٌ في النفس فكونها حوراء أنسية لا يخالف العقل والعلم ولقد ثبت أن الرسول قال ( كلما أشتقت إلى الجنة قبلتها ، وما قبلتها إلا وجدت رائحة شجرة طوبي منها فهي حوراء إنسية ) وإن هذه القدسية التي كانت في الزهراء لا تخرجها عن كونها بشراً بل عظمتها تتمثل في كونها بشراً مقدساً وهي بذا تكون محلاً للإقتداء والتأسي .
بيد أن التأسي والأقتداء يقتضي التعرف على جوانب العظمة فيها وكل جوانب حياتها عظمة ولكن تحتاج إلى جهد الباحث وقلب المتلقي لإن ما إقترفته أيدي الضلال على إمتداد الزمن من محو آثار أهل البيت وكتم فضائلهم أدى إلى عدم التعرف حتى على أشخاصهم ومناقبهم ، وفي هذا العصر تغثنا وسائل الإعلام بكل وضيع لتزحم ذاكرتنا من أن يبقى فيها ذكرٌ لأهل البيت تمحو فينا بذلك كل ما هو طاهر ونبيل ، وتكثف فيها ذكر أهل الفسوق والعصيان .
إننا اليوم كما في أي وقت نحتاج أن نصوغ ديننا و حياتنا وفق معطيات فاطمة إننا من خلال تعرفنا على فاطمة عليها السلام نتعرف على أنفسنا و حاجياتها الحقيقية 0
وهنا نلمح إلى جانبين فقط من جوانبها المتعددة ونتعرف من خلالها على بعض مكونات هذه الشخصية العظيمة 0
الأول: الجانب الإيماني و تتشعب إلى أمرين :
1- إننا حينما نقرأ الزهراء و نتعرف على سيرتها فإننا لن نجد إلا صورة نقية لا يشوبها أي شائبة وتصور الإسلام كما هو غظا طريا كما أنزل على محمد فهي عليها السلام في حركاتها و سكناتها لا تنطق إلا عن الله ولا تنطق إلا منه وإليه ، فغضبها لله و رضاها لله ومنعها لله وإعطائها لله لا تحابي ولا ترائي في الله ،أنها كانت تعيش التجرد من الذات و الإنصهار في حب الله ومرضاته لا تبتغي سوى وجهه جل وعلا (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء و لا شكورا )0
ولهذا نحن نفهم الإسلام من خلال الزهراء وما خطبتها إلا بيان ديني و حكم شرعي توضح فيه الدين أكثر مما تنادي بحق شرعي أخد منها كيف وهي الزاهدة المتنكرة للأنا المتفانية في الله والتي نذرت حياتها كلها في سبيل مرضاته حتى تعلق لا نقول رضاها برضاه بل رضاه برضاها و غضبه لغضبها حيث يكون هذا التعلق متدافقا مع المساق الحياتي الذي سارت فيـه فاطمة .
2- لعل بعضنا يفهم من الدين هو تلك المبادئ والقيم و الأفكار التي ينبغي أن نؤمن بها ونجلل الأسماع باعتقادنا لها وذلك دون اللالتفات إلى جانب إنما الروح بالعيادة وتزكية النفس بالإتصال بالله والتلذذ بمناجاتها ، وهذا مما يفرغ النفس من لذة الإيمان رغم وجود صحة المعتقد بل ربما أفضى ذلك إلى زعزعة الاعتقاد مستقبلا، لم تكن فاطمة تفصل بين ما تعتقد وبين ما تمارس بل كانت تشفع عقيدتها بإنماء روحها بالعبادة 0
يقول الحسن ( ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة ،كانت تقوم حتى تتورم قدماها )
وهي في ذلك لا تفصل بين حياتها وحياة الأخرين حتى عرف عنها صبرها على تعليم النساء ومجاهدتها في خدمتها دون ملل أو تبرم حتى نجد أن السائله تخجل من كثرة مسألتها للزهراء والزهراء تحدثها على المزيد ، لقد كان هذا الحب في الله ولله حتى أنها أشركتهم في عبادتها و دعواتها 0
يقول الإمام الحسن ( رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى أتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعوا لنفسها بشيء فقال لها : يا أماه لم لا تدعين لنـفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت : يأبني الجار ثم الدار )
الثاني : الجانب التربوي
يُعزى كثيرٌ من الجنوح عند الأبناء عامة إلى خللٍ تربوي أدى إلى وضعٍ سلوكي عندهم يوصف بالتمرد تارة والإنحراف آخرى والسقوط ثالثة إن هذا الخلل التربوي كان نتاجٍ ضعف أو إنعدام القدوة الصالحة والعارفة بخصوصية الأبناء و إحتياجاتهم العاطفية والمعرفية .
إلا يحق لنا أن نتساءل ماهي البرامج الاساسية التي طبقها الرسول في تربية الزهراء ثم أنعكست هذه التربية عليها وعلى أولادها من بعدها ، إننا حينما نفتش في يوميات الرسول مع الزهراء نجد أمرين بارزين رسما قدوة حاضرة مثّلها الرسول وجسّدها بالأعمال لا بالأقوال .
1 – الغذاء المعرفي
فقد كان النبي الأعظم حريصاً على تعليم ابنته وإحاطتها بمعارف الشريعة وعلوم الدين وما خطبها ومصحفها ودروسها في بيتها إلا فيضاً من فيض النبوة ، ولعل هذا الجانب معروف ومعلوم لدى الكثيرين ولكن دون أن يستوجب ذلك منهم الإهتمام بهذا الجانب إقتداءً بالرسول .
2 – الفيض العاطفي
لعل من الأشكاليات التربوية العويصة التي تواجه مجتمعنا المعاصر خاصة في تربية البنات أننا نلحظ جفافاً عاطفياً شديداً بين الوالدين والبنات اللواتي عادةً ما يحتجن لمثل هذه الرعاية الخاصة .
خاصة من تنوع أدوات المعرفة وتعددها جعلت الجانب العاطفي على خطر عظيم اذ إن المعرفة يمكن حال خطئها تعالج ولو بعد حين دون أن تسبب كوراث إجتماعية ولكن السلوك العاطفي متى ما إنحرف كان علاجه صعباً ، من هنا حيثيات الواقع اليومي المعيش تحتاج أن نطلع على يوميات الرسول مع فاطمة كي تستقي دروساً في التربية العاطفية بين الأهل دون أن ندعي خجلاً أو نمنع حياءً .
جاء في الرواية : كانت إذا دخلت على رسول الله قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه وكان النبي إذا دخلت عليه قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها )
وتـقدم أن الرسول كان يشم فاطمة كلما أشتاق إلى الجنة .
إن هذه السلوكيات المتكررة والمتكاثرة في حياة الرسول أوجدت علاقة حميمة بين الرسول وأبنته كانت من المفترض أن تصبح محل تأسي وإقتداء لأنها فعل معصوم واستجابة طبيعية لحاجة ينبغي أن تقضى.