وسط الضجيج..
ارتفعت أصوات الضوضاء في الخارج حين خرجنا بعد صلاة العشاء من الحرم، وعلى مسافات متباعدة كانت ساحة الطريق تمتلئ بالناس والكثير من الباعة الذين يفترشون الأرصفة القريبة ببضائعهم.. يبدو الزحام شديداً في هذا الوقت فالناس منتشرة كالجراد.. تحسست عيوننا ألوان البضائع المتواجدة في المحلات والباعة وأصناف الناس الذين يشترونها.. حاول أحدهم اجتذابنا لبضاعته حين كانت أختي «نادرة» تقلب شيئاً منها، لم أشأ المكوث كانت خطواتي تتعجل الانصراف.. أحد الباعة يستعرض لعبة يحرك مفتاحها أمام بعض الحجاج المجتمعين حوله، وعلى مقربة منه عجوز آخر يصَّف أعواد الأراك، انحنت أختي لتلتقط منه بعضها، كان لرائحة محلات العطارة أريج خاص تصاعدت إلى رأسي روائح البخور المنبعثة من أحدها.. وبين الرصيف والشارع كنت أتخطى الشحاذين اللذين يكثرون في هذا الوقت.. توسلاتهم تنفذ إلى الآذان بمهارة ونظراتهم تلتقط الوجوه المحسنة.. إحدى النساء تحمل طفلاً ترضعه بلا مبالاة لا تبدو عابئة بأحد وهي تمد ساقيها أمام بضاعتها المكومة وطفلة بجانبها تعبث بأصابع قدمها وهي تبتسم في بلاهة.
اتفقنا أنا وأختاي على شراء وجبة عشاء ونحن عائدات لكنهما كالعادة تتجادلان حول نوعية الشواء.. سألتني «سهيلة» عن رأيي لأفصل بين جدالهما فأخبرتها بأني سآكل ما تختارانه.. انتقشت آثار الزحام في كياني فرحت أتفرس في الوجوه التي خرجت لتوها من رحاب الحرم.
ياه.. كل هذا الكم الهائل من الزخم البشري هنا!.. لازلت كما أنا أعشق التأمل في الوجوه وأخط لها معاني من وراء التعبيرات ووسط هذا الضجيج البشري يعبث بي الخيال أحياناً ليغريني على القيام بتصنيفات مختلفة لها وفرز ما في الرؤوس والدواخل من نظرات عيونهم وتعبيراتهم وإيقاع حركاتهم المعبرة.. هذا وجه منهوك، وذاك حالم، وتلك تبدو في اطمئنان ودعة، وربما يبدو الأخير مستعجلاً في التفكير كما في الحركة!!.. إنها تسلية أخوضها أحياناً لقراءة بعض المعاني التي أجدها معبرة.. بعض الناس حين نقرؤهم بصمت يمكننا معرفتهم بوضوح والبعض الآخر تتعبنا قراءتهم وآخرون يحتاجون منا لقراءات طويلة ومتعددة بينما الأصعب من بين كل هؤلاء من يجهدونا في القراءة ثم نكتشف أننا بعد كل هذا لم نفهمهم!.
بخطوات سريعة عبرت الشارع مع أختيّ ونحن نتخطى ازدحام المارة الكثيف.. دنوت نحو مقعد قريب من بائع «شاورما» طلبت «نادرة» لها واحدة بينما اكتفت «سهيلة» وأنا بالعشاء الذي سنشتريه من مطعم الفندق.. ضقت بالانتظار وملأني الملل أخذت أنفخ في الهواء، كان من الخير لي أن أقوم بشيء فاقتربت من بائع البوظة لأسأله عن سعرها.. لمحتها ترمقني من بعيد جالسة في زاوية مع أخريات متباينات معها في العمر وبعض الأطفال الصغار كانت تحك ساقها بيديها.. خلسة تنظر لي تصطدم نظراتها بعيني لا تكف عن متابعة خطواتي رغم أني لم أُعرها اهتماماً!.. لم أمهل نفسي النظر إليها طويلا وإنما غادرت مع أخواتي بعد أن دفعت عن «نادرة» ثمن الشاورما.
جسمٌ صغير ووجهٌ مدور يحمل نظرات بائسة، طفلة سمراء تبدو في العاشرة من عمرها، ملامحها مريحة نوعاً ماً وإن بدت مرهقة.. لستُ أدري ماالذي جذبها إليّ تحديداً فلا تكاد ملامحي تشي باللطف خاصة وأنا أبدو اليوم مرهقة!.. اقتربت مني وقفت أمامي كتمثال صامت كانت تعابير ها تتوسلني ترسم حلماً بعيد المنال عن عالمنا، ومدت يدها نحوي في حركة بطيئة، أشارت بسبابتها إلى وجهي متوسلة..
- «الله يخليك.. أديني ريال»
هززت رأسي نفياً وأشحت به عنها أقطع محاولاتها بينما كانت أخواتي يحاولن العبور وسط الزحام، التصقت بي بإصرار.. عادت تلح عليَّ فالتفتُ لها متحدية بابتسامة مغلفة بالسخرية:
- لا تتعبي نفسك معي.. لن أعطيك شيئاً.
لم تُعلق، بل راحت تتعقبني كظلي وبانكسار مدت يدها نحوي وبملامح مُدربة على استعطاف الناس راحت ترجوني بتوسل.. بقيت تستجديني لمسافة طويلة.. راقبتها من زاوية عيني.. وفي داخلي ضحكت منها بسخرية، «تظنني سهلة سأستجيب لها»!
أرفض تشجيعها على التسول.. البارحة جاءتني واحدة أعطيتها شيئاً وما إن لمحتني أخريات حتى تجمعن حولي كالنمل كنت أحاول تخليص نفسي منهن عبثاً وسط مشاغبات أخواتي اللاتي خرجن من الزحام بصعوبة ولم يدخرن طوال الطريق سخرية يتندرن بها حول سذاجتي..
قالت سُهيلة:
- قلت لك يا عزيزتي ما أن تُخرجي محفظتك وسط الطريق حتى يشم الباقي رائحة النقود من بعيد وكلهم يدعي الحاجة!.
عرجتُ نحو اليسار وما إن تذكرت موقف البارحة حتى كتمتُ داخلي ضحكة تكاد تكون عالية.. يا لي من حمقاء.. من السهل استغفالي أفرغت كل ما في محفظتي البارحة لأنجو منهن وسأفلس خلال يومين إن استمر الوضع بهذه الطريقة.
كنت أسير ببطء وهي لازالت بقربي وبيني وبين أختاي مسافة.. لا بدِّ أنهما تتراهنان الآن عليَّ ربما «سُهيلة» تتحدى «نادرة» بوجبة عشاء فاخرة وربما قد تكون الأخرى تخطط للفوز بعشرة ريالات أو غسيل ملابسها هذا الأسبوع.. لا بأس، مهما يكن ما ستتفقان عليه فلن أرضخ.. خلال ذلك تنقلت الفتاة بيني وبين أختاي فانصرفت حين لم تجد منهما استجابة عائدة نحوي ترمقني بعينيها الضئيلتين:
- «الله يخليك.. أديني ريال».
نظرت ملياً في عينيها حين التفتُ نحوها.. كانت مرهقة وكادت تواصل توسلاتها لولا أني فكرت بمشاغبتها لشغلها عني:
- ما اسمك؟
أجابتني بفتور لتتجاوز الأمر:
- «فايزة»..
عدتُ أسألها:
- هل تدرسين؟
فصمتت.. ثم نظرت للأرض وكأنها يئست مني.. وراحت تفكر.. زاد صمتها وإطراقها..
فعدت لأسئلتي:
- في أي سنة أنت؟
أجابتني بتثاقل
- الرابع
وصلتني رنة لضحكة خفيفة من سُهيلة «، إذاً.. ما زلن يتندرن بي».
كانت لا تزال تستعطفني لكن صوتها تضاءل وبدا خافتاً لا يكاد يُسمع حين سألتها عن إخوتها وأهلها هل يعرفون أنها تشحذ الآن، ألا يصرفون عليها..؟
عبرت ملامحها اليائسة ارتعاشة بكاء حزينة.. ربما خنقها سؤالي ولم تتوقعه!
كنت أسير وهي بقربي وبيننا صدٌ ورد.. قالت بعد صمت طويل:
- «الله يخليك.. أديني ريال».
كنت لا أزال أخط صورة للملامح التي تسكنها حين خطر ببالي أن أسألها:
- هل أنت سعودية؟
رفعت إليَّ عينيها المليئة بانكسارات تشوبها الدهشة.. ثم أجابتني بالنفي
وبلؤم قلت:
- من أين إذاً؟
سكتت قليلاً ثم ردت:
- نيجيريا.
صمتُ لأفكر حين بدأت خطواتها تثقل وتضطرب في المسير بحيرة واضحة ثم تهالكت أسارير وجهها المرهقة لتقول بصوت واهن خجل:
- الله يخليكِ... ولم تكمل.. فقد تلاشى إيقاع صوتها أخيراً مع التعب..
نظرت لها بعينين تقرأ عُمق الحزن في نبراتها فتحرك قلبي بوجع مع طفولتها.. للمرة الأولى اكتشف أني لا أستطيع الصمود طويلاً أمام مثل هذه المواقف ولا تنفيذ شيئٍ كنت أنتويه، وربما صعُبت عليِّ قراءتها!!.
أملت رأسي عليها وانحنيت نحوها برفق لألف ذراعي حول كتفها الضئيلة وكأني كنت أوجه لها موعظة وأنا أخفض صوتي خوفا من سماع أخواتي له.. كانت لا تزال بيني وبينهما مسافة فاصلة تسمح لي بالحديث معها.. حاولتُ التقاط الكلمات التي جالت في خاطرها بسرعة حين كنت أثرثر معها ومن دهشتها لم تفتح فمها لتجيبني.. أطرقتْ خجلاً لكنها لم تكشف لي أغوارها.
تباطأت خطواتها ربما فكرت في التراجع وأحسّت بأن مشوارها الذي قطعته بلا فائدة.. لان قلبي ورق صوتي في مخاطبتها، وددت أن أغير موقفي معها.. وفجأة مددتُ لها يدي بما معي متراجعة عن التحدي الذي كنت واثقة أنه تم خلفي ببضع خطوات.
وشت ملامحها الداكنة بالسعادة حين أخذته مني، وزفَّت ابتسامة فرح على وجهها المرهق فتحول إلى حديقة نضرة قد رُويت للتو، ونطقت معانيها بالبهجة.. وما إن حصلت على الريال أخيراً حتى عادت أدراجها مسرعة.
التفتُ أنا خلفي لأقيس المسافة.. كانت طويلة!.. وقبل أن استمع إلى ما كانت أخواتي سيشاغبنني به حولها كنت أتساءل:
«ترى.. هل يستحق الريال كل هذا المشوار الطويل الذي قطعته لأجله؟!»