شطب المقدس وتغييب الغيب
تنطلق في العالم الإسلامي في الوقت الراهن دعوات من كتاب ومفكرين ومثقفين تنادي بأنسنة الدين وتجريده من المقدس والغيب. وترتدي هذه الدعوات لباس الإصلاح مدعية امتلاكها الأدوات المعرفية والمنهجية التي تجعلها قادرة على ممارسة نقد الفكر الديني محاولة زحزحة الكثير من المفاهيم الإسلامية عن الساحة لتحل محلها مفاهيم العولمة والعلمنة.
المقدس والغيب إذا سقطا من ثقافة المسلم يتحول إلى كائن آخر لا علاقة له بالإسلام، ومن هنا يأتي الحث على تعظيم شعائر الله، وهل ذلك إلا تقديس يكشف عن تقوى القلوب، والتقوى لا يتلبس بها إلا الذين يؤمنون بالغيب.
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (2-3) سورة البقرة
لقد تحدث القرآن الكريم عن كثير من الأمور المقدسة ( الوادي المقدس، الأرض المقدسة، الشجرة المباركة، الإنسان المبارك، البقعة المباركة، البيت المبارك، المُنزَل المبارك، الماء المبارك، الكتاب المبارك، التحية المباركة، الليلة المباركة)، وتحدث عن آثار عجيبة تصدرها كائنات مباركة، وهذه الآثار لا يصدقها من يؤمن بالحس والتجربة فقط، إذ كيف يصدق من يؤمن بالمحسوس أن قميصا لامس جسدا مباركا هو جسد نبي الله يوسف عليه السلام يستطيع أن يرد بصر يعقوب عليه السلام بمجرد إلقائه عليه، أم كيف يصدق أن تابوتا ضم طفلا رضيعا مباركا هو نبي الله موسى عليه السلام يكون مصدر السكينة والعز والنصر لمن يعظمونه ويتبركون به.
﴿وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (248) سورة البقرة
فقد روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي جعفر أن التابوت كان الذي أنزله الله على أم موسى فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر، وكان في بني إسرائيل معظما يتبركون به، فلما حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آثار النبوة، وأودعه عند وصيه يوشع بن نون، فلم يزل التابوت بينهم وبنو إسرائيل في عز وشرف ما دام بينهم، حتى استخفوا به وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلما عملوا المعاصي واستخفوا به رفعه الله عنهم، فلما سألوا نبيهم أن يبعث إليهم ملكا بعث الله لهم طالوت ورد عليهم التابوت.
إنما ندعو إليه هو تعظيم شعائر الله من خلال تقديس ما ورد الحث على تقديسه، إذ في ذلك سمو الروح وتحليقها في الآفاق الربانية، وتحقيق إنسانيتها الحقة.
إن تسمية الشعائر بهذا الاسم الذي هو جمع شعيرة وهو ما يدرك بلطف ودقة تسمية ذات عناية، فشعائر الحج مثلا لا يدركها إلا ذوو الأفهام العالية والنفوس المطهرة التي تشربت التقوى، والأمر كذلك بالنسبة للشعائر الحسينية. لنتمعن هذه الرواية التي نرى فيها كيف يتعامل الإمام الصادق مع تربة الحسين :
يقول معاوية بن عمار رضي الله عنه: كان لأبي عبد الله خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد الله، فكان إذا حضرته الصلاة صبه على سجادته وسجد عليه ثم قال: إن السجود على تربة أبي عبد الله يخرق الحجب السبع.
ويعلق آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني حفظه الله على هذه الرواية قائلا:
كان لأبي عبد الله.. وكان هنا تفيد الإستمرار..
خريطة ديباج صفراء.. من أغلى القماش الذي كانت تحفظ فيه الجواهر واللئالي! فكان يحفظ فيه تربة أبي عبد الله الحسين!
وكان يفتح هذا الكنز المقدس، ويخرج ذلك التراب المبارك ليسجد لله عليه في صلاته! ثم يقول للناس لا تتعجبوا من فعلي هذا: إن السجود على تربة أبي عبد الله يخرق الحجب السبع!
أنا عاجز عن شرح هذه الكلمة! وروايتها صحيحة، فهي عن معاوية بن عمار رضي الله عنه، وسند الشيخ اليه صحيح.
فاعجب إن أردت العجب لأن يكون السجود على تربة الحسين يصل شعاعه المنير الى الأرض السابعة! ويصعد من ناحية أخرى حتى يخرق الحجب السبع! فأي قدرة جعل الله في هذا التراب؟ ومن هو ذلك العظيم الذي وقع ظله على تراب كربلاء؟!
التراب الذي بلغ من قدرته أن الإمام الصادق، حجة الله في أرضه وولي الله المطلق، يستفيد منه في سجوده فيضع عليه جبهته، ليخرق نوره وسجوده الحجب! إنه أمر يحتاج الى فقيه نبيه ليفهمه! انتهى كلام الشيخ.
إن التمسك بالمقدس والغيبي أمر لا ينبغي التهاون فيه بخاصة في هذا الموسم المبارك، موسم عاشوراء الحسين