كربلاء منطلق المصلحين
الإصلاح هدف من الأهداف التي دعت إليها الديانات السماوية، وعمل من أجلها الأنبياء والمرسلون والأوصياء على مر التاريخ، فما من نبي جاء إلى قومه إلا وعمل على إصلاح شأنهم وتصحيح حالهم، وإن كلفهم تقديم حياتهم ثمنا لعملية الإصلاح.
والإمام الحسين الوارث لهؤلاء الأنبياء جميعا كما ورد في الزيارة هو الآخر قام من أجل الإصلاح وقدم الخيرة من أهله وأصحابه ثمنا للإصلاح.
وقد جاء في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية: هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده و رسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور،ِ وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر و أسير بسيرة جدي و أبي.
والإصلاح كشعار أو بالمعنى الأعم قد ينطلق من غير الأنبياء والأوصياء ومن يسير في خطهم، وربما تنعكس دعواتهم على الأرض فيلاحظ الناس انعكاسها على الواقع، نظرا لامتلاكهم أسباب القوة ومواقع الأمر والنهي، وهذا يدعونا إلى التعاطي معها ولكن ضمن رؤية تأخذ المعايير الدينية بعين الاعتبار، والواقع الخارجي بموضوعية. وبذلك يكون التعاطي بعيدا عن التسطيح والسذاجة.
ثمن الإصلاح:
تستبطن الدعوة إلى الإصلاح وجود واقع فاسد، أو سيئ، أو متخلف، ويحتاج إلى تصحيح وإصلاح، وتفترض عملية الإصلاح وجود جبهتين: جبهة متضررة من الإصلاح فتقوم على حراسة الماضي والدفاع عنه بل والبطش بمن ينال منه إن كانت بيدها أسباب البطش، وجبهة متضررة هي الأخرى من الواقع الفاسد والسيئ والمتخلف، فتعمل على إصلاحه.
وبين الجبهتين تنافر بيِّن، يحسم بالحوار والمنطق عند ذوي الألباب، أما من عقله السلطة لاسلطة العقل فإنه لن يتقدم خطوة واحدة نحو الإصلاح، ولن يستجيب لنداء العقل والوحي المتمثل في دعوة المصلحين من الأنبياء والأوصياء والمصلحين، ولذا كان لا بد من التضحيات وهي الكفيلة بحسم النزاع والوصول إلى الإصلاح.
والتضحيات لا تكون للوصول إلى الإصلاح فحسب بل لا بد أن تستمر وتستمر في حراسته والحفاظ عليه من أن يحور أو يسرق.
ومن هنا يمكن لنا أن نفهم خروج الإمام الحسين مع قلة العدة والعدد وخذلان الناصر، فضحى لله وقدم كل مايملك في سبيله والنتيجة ظهرت وبجلاء أن سلاح الدم الذي استخدمه أبو الأحرار قهر قوة وجبروت بني أمية المتمادية في الطغيان والمانعة لكل طريق وسبيل يؤدي إلى الإصلاح.
ونفهم أيضا ما قدمته عقيلة الهاشميين مع من كان معها من النسوة والأطفال كي لا تسرق عملية الإصلاح أو تحور. فالإمام ضحى من أجل الإصلاح، ومن بقي من أهل بيته ضحوا من أجل الحفاظ على عملية الإصلاح.
وهذا درس مهم على المصلحين الالتفات إليه، فكم من الشعوب تقدم التضحيات من أجل الإصلاح فتسرق جهودها، وتحور تطلعاتها، فيقدم لها إصلاحا مشوها على أنه هبة وتفضلا من هذا أو ذاك.
وأمام أعيننا الشعب العراقي الذي قدم التضحيات تلو التضحيات حتى بلغت الملايين، ثم جاءت الولايات المتحدة الأمريكية - وهي الشريك في كل ما عاناه الشعب العراقي – تتمظهر بمظهر المنقذ والمصلح في العراق، وربما انخدع البعض منا ونسى أنها هي من قدمت له أسباب البطش بشعبه وجيرانه.
فأن تعمل من أجل الإصلاح فقط، وتضحي في سبيله فقط، لا يكفي، فلا بد أن تعمل وتسهر للحفاظ عليه، وتمنع عنه أيدي السراق والعابثين.
كربلاء؛ إصلاح النفس:
يتعرض الإنسان إلى تجاذبات وضغوطات فإن تجاوزها وإلا وقع في خط الانحراف، وأخطر نقطة في هذا الخط حين يفقد الإنسان الوعي والإرادة، حينها يستسلم للواقع الفاسد ويتكيف معه، فيؤثر على كل ما يرتبط به من ثقافة وفكر وأخلاق وأعراف ... وحينها يصبح شخصية ممسوخة في جميع جوانبها وأبعادها.
وإلى هذه الحقيقة يشير القرآن الحكيم؛ بقوله تعالى:
﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ سورة الزخرف 54.
فالإرهاب والترغيب الذي مارسه فرعون تمكن من نفوسهم فسلبهم الوعي والتفكير فيما هو ضار أو نافع لهم.
وما واجهه الإمام الحسين لا يختلف كثيرا عن هذه الصورة فعمليات الإرهاب بالسجن والتنكيل والقتل والتشريد، والترغيب بالهبات والتفضيل في العطاء الاقتصادي والسياسي والاجتماعي – كل بحسبه – مسخ نفوسا كثيرة، فحولهم من زمرة الصالحين والعاملين في خطهم، إلى زمرة المفسدين والحارسين لهم.
وإلى ذلك يشير الإمام الحسين بقوله:
( سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحنـاها على عـدوّنا وعـدوّكـم، فأصبـحتم الباً لأعـدائكـم عـلى أوليائكم بغير عدل افشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم ).
فكان لابد من هزة عنيفة تؤثر في النفوس فتشعرها بعمق المأساة وحجم الكارثة فتنتشلهم من هذا المستوى من المسخ الذي يعيشون فيه.
فإصلاح النفوس هو أول الأهداف وأهمها لهذه النهضة المباركة، والمستهدف من عملية الإصلاح هو الإنسان، ولا يتحقق إلا به أيضا.
ولقد كان لنهضته الأثر الكبير في إصلاح النفوس من خلال استعادة الوعي والإرادة في نفوس أبناء الأمة، وتقديم نماذج صالحة استطاعت تجاوز التجاذبات والضغوطات فتجاوزت كل الصفات المخلة بإنسانية الإنسان، وسطرت قيم الصلاح في معركة الفضيلة.
فالوفاء، والإيثار، والشجاعة، وتجاوز الذات... قيم مرتبطة بإنسانية الإنسان وقد سطرها آل الحسين وأنصاره في معركة القيم الخالدة.
بينما اللؤم، والحسد، والجشع، والطمع، والدناءة والخساسة ... صفات دخيلة على إنسانية الإنسان وقد صرعها آل الحسين وأنصاره في مواجهتهم مع لؤم بني أمية وأنصارهم.
لذا ينبغي علينا ونحن نعيش أجواء عاشوراء أن نتعرض لقيم عاشوراء فنصلح بها أنفسنا، وكلما مر علينا هذا الموسم المبارك كلما طهرت أنفسنا وزكت أرواحنا، وحينئذ يحق لنا أن نقول " ياليتنا كنا معكم"، لأننا والحال هذه نكون معهم ومن جملة ناصريهم.
كربلاء؛ إصلاح الأمة:
تبرز لفظة "أخرج" و "خرجت" في قوله : ( لم أخرج .. وإنما خرجت ) معنى أكبر وأعمق من المغادرة، فليس مراده من ذلك مجرد المغادرة، وإنما يريد أن يظهر أن لديه مشروع نهضة للأمة بعد أن سيطر عليها التخلف من جميع جوانبها.
ويتضح ذلك من استعمال هذا الاصطلاح في الأبعاد السياسية، ومن تصريحه بالإصلاح.
والإصلاح ضرورة لأي مجتمع، أو قوم، أو أمة محكومة بنظم لا تنسجم مع قيمها التي تؤمن بها، أو لا تتلائم مع المستوى الذي يعيشه أبنائها، ( ثقافيا، سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا ) ويتطلعون إليه.
فإن استشعر القادة والمفكرون والأعيان ضرورة الإصلاح وبادروا إليه، وإلا فإن الأمة مرشحة للانفجار، وكلما ازدادت مواطن الخلل اقترب موعد الانفجار من التحقق.
وللأنبياء وأوصيائهم دور أساسي في هذه المعادلة، فقد تضمنت رسالاتهم جميعها في أحكامها وشرائعها التفاصيل والحقائق الكفيلة بتحديد ما للإنسان من حقوق وتطلعات ورغبات وكشفت عن أبعادها الدينية والأخلاقية، ونصت على أن إرسال الرسل والأنبياء بالكتب والبينات وتنصيب الأوصياء لهم، إنما هو من أجل إنقاذ الإنسان من ظلمات الجاهلية وقيادته إلى النور والعلم والمعرفة، والسير به في أوجه الخير والحق، وإبعاده عن أوجه الشر والباطل، والارتقاء به نحو الكمالات، وتأهيله لأداء مسؤوليته في الحياة.
والإمام الحسين وهو أحد الأوصياء الذين نص عليهم الرسول، حين رأى الخلل المستشري في جسم الأمة بادر للإصلاح.
قال : ( اللهمّ إنّك تعلم انّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً في فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك في بلادك ) .
وعملية الإصلاح التي قادها تمثل مشروع نهضة للأمة، لذا يجب على كل المصلحين الارتباط بها والتتلمذ عليها، وعلى أبناء الأمة الالتفاف حول رايتها، والارتباط بها فهي الملاذ الآمن لكل من يطلب إصلاحا أو يبحث عنه.